فروغ فرخزاد التي انطفأت باكرًا: حياة كاملة في الشعر/ مناهل السهوي
“أوقّر الشِعر بالطريقة نفسها التي يوقّر بها المؤمنون الدين”، بهذه العبارة تلخص الشاعرة الإيرانية فروغ الزمان فرخزاد (1934-1967) حياتها. فروغ من تلك النساء اللاتي يبذلن أنفسهن للشعر أو بمعنى آخر يولدن شاعرات، يثير العالم دهشتهن، أقصد العالم المتهالك الذي لا يطابق غريزتهن وأحلامهن وحريتهن الفطرية، ومن هنا نستطيع أن نبني تصورًا أقرب للحقيقة عن حياة هذه الشاعرة الاستثنائية، ما بين الطريقة التي ولدت بها والطريقة التي ودّت أن توجد بها حقًا.
خمسُ مجموعاتٍ شعريّة خلال حياة قصيرة انتهت بحادث سيارة تكتب فيها فروغ ذاتها وتجربتها الإنسانية الخاصة لتغدو في النهاية صوتًا إنسانيًا واسعًا يخصّ الكثيرات.
صدور أعمالها الكاملة عن” دار المدى” بترجمة رفيعة لمريم العطّار، تتيح لنا التوقف طويلًا عند تجربة خاصة كهذه.
“الأسيرة”، 1953: ما بين الأسر والرغبة
يختصر عنوان المجموعة الأولى ما تعانيه فروغ في محيطها، وتنطلق فروغ من عتبة هذا العنوان، فهي امرأة تخشى لكنها تحب، تملك الرغبة لكنها تبحث عن منفذ لا يؤرقها، عناوين قصائد كـ “المنفية، الحلم، أيّ مكان، متعبة، بيت مهجور، الحسرة، الوداع، هروب” تختزل ألمًا عميقًا وكيانًا يغصّ بالحياة والذعر. تستخدم فروغ صورًا تكاد تمرّ دون أن نلمحها، صورٌ محكمة الصياغة بشعور حسّي عالٍ.
“من فرط الحب قبّلت عينيه الناعستين
سقط طرف فستاني في الماء
وانتشلته يداك”
يشكل الندم والخوف والتردد عالمًا تنطلق منه فروغ، هو عالمها الثابت بلا شكّ الذي ستنطلق منه نحو هيكلةٍ جديدةٍ للشعر الفارسيّ حيث لا خوف ولا تردد، حيث المرأة قادرة على البوح كما لو أنها تعرف الحريّة منذ مئات السنين.
يلاحق الأسر حياتها كما الشِعر تمامًا، نتلمس ذلك في قصيدة “غول الليل” حيث المشاعر المتناقضة تشدّ قيد الشاعرة، وهي قصيدة موجهة لابنها كاميار حيث تحدثه عن غول الليل القادم ليأخذه من حضنها – في الحقيقة تم أخذه منها بعد طلاقها من زوجها برويز شابور- وحين تحاول الاحتفاظ به يصرّح الغول على أنها أمّ مذنبة وهذا أسوأ من كونه وحشًا، هذه القصيدة هي عالم من الذعر بين ما نحن عليه في الحقيقة وبين حريتنا، أحلامنا وأمومتنا، وهي واحدة من القصائد شديدة الحساسية لديها.
“الجدار”، 1957: تقشير الأنوثة الصارخة
رغم كثرة القيود، التي تكبّل شغف الشاعرة وحياتها، إلّا أنها تعلم تمامًا ماذا يوجد خلف الجدار. تقدم فروغ في مجموعتها الثانية بحثًا باطنيًا عن أناها دون أن تتجرد تمامًا من مخاوفها، وتتحدث في قصيدة “الضحية” إلى الشعر، بعد أن بات ملجأ لكنه في الوقت ذاته باب للفضائح وسبب لتوجيه إصبع الاتهام نحوها، فقد عانت بعد نشر قصائدها وديوانها الأول من النقد على الصعيد الأخلاقي والمجتمعي.
“أيها الشعر.. أيها الإله الذي يمتص الدم
ألا تكتفي من كل هذه الضحايا؟”
تستمر فروغ في تقشير أنوثتها الصارخة على مهل لتُخرج صورًا شفافة وهادئة، فيتكشف لنا أن ثورتها خارجة من عمق الإنسان والأنثى والرغبة، تقدم شعرها وثورتها جنبًا إلى جنب مع أنثاها العارية تمامًا بعيدًا عن أيّ حكم مسبق وكأنّ الشعر يجعل حريتها ذات معنى محسوس وإنساني.
ما يأسرنا بشعر فروغ هو ذلك الوجع الذي تتركه داخلنا، كأنها لا تبالي بمن سيقرأ قصائدها، لتبوح بطريقة أقرب للجرح لكنها في ذات الوقت تعلم تمامًا كيف تشكّل عالمًا يحبس قارئها داخله.
“العصيان”، 1959: سلالة لا تعرف سوى الحرية
يبدو التمرد مرعبًا في بادئ الأمر، ألا يتساءل صاحبه عن جدوى ما يفعل وهل هو حقًا جدير به؟ فيبدو من الطبيعي أن نتلمس عند فروغ ذعر التمرد والعصيان، هلوسات الشعر والرغبة والواقع والخوف.
“عيناكَ الغريبتان..
حين تنزلقان على هذا الكتاب غير المعنون..
ستريان عصيان جذور التمرد في قلب كلّ أغنية”
هكذا تمتصّ الحبّ من شقوق التفاصيل، ولشدّة رغبتها في الحب والحرية يبدو للقارئ كما لو أنّها تنحدر من سلالة لا تعرف سوى الحريّة، رغم أن الواقع قد يختلف، لكن يمكن أن أقول ومن خلال شعرها إن من يعرفون الحب جيدًا هم أولئك الذين اشتغلوا عليه زمانًا قبل أن يلتقوا به كما الحريّة تمامًا!
“قرب قدميّ كان كتابكَ واقعًا
وفوق سريركَ هناك ربطة شعري
من بيت الأسماك البلورية
ما كان صوت الماء آتيًا بعد
عمَّ كانت تفكر قطتك العجوز
ولا تنام؟”
يخرج الألم الطازج لفروغ من قلب كلّ الأشياء التي عرفتها، ابتداءً من أسرتها، منزلها، زوجها، رغبتها وطفولتها. في قصيدة “الرجوع” تتحدث فيها أيضًا عن فقدان ابنها كاميار وعن بحثها عنه لتكتشف في النهاية أن الصوت الذي سمعته لا يخصّه، وتنهي قصيدتها بقولها “مدينتي كانت قبرًا لأمنياتي”. وبإمكاننا أن نسند الكثير من شعرها وحياتها إلى هذا المقطع كما قد نجد خلاصة تجربتها الشعريّة والذاتية، فشاعرة مثل فروغ يلزمنا البحث جيدًا في كلّ ما عاشته وعانته لندرك جوانبَ أخرى في شعرها، ولا يعني ذلك أن نُرجع شعرها كلّه لحياتها الخاصة إنما ما أودّ قوله هو أننا قد نجد حياة كاملة في الشعر!
“ولادةٌ أخرى”، 1964: يتحول الشِعر إلى امرأة
يتحول الشعر في مجموعتها الرابعة إلى امرأة، وهذا التحوّل يأتي بعد معاناة مع الجسد والرغبة والقيد فتسميها شاعرتنا “ولادة أخرى”. وكما في مجموعاتها السابقة لا مواربة ولا رمزية في عناوينها، لتقول منذ البدء ما تودّه وهذا أيضًا شكلٌ من أشكال الحريّة. تأخذ نصوصها ذات النفس في الاشتغال على الجرأة والصدق في تقديم الجسد والرغبة لكن مع دفقة حسية أكثر جرأة.
“أنتَ تشنجات اللذة في جسدي
خطوط جسدكَ أصبحت فستاني
آه.. أريد أن أمزّق كلّ هذا الفرح
للحظة.. يمتزج الفرح بالحزن”
قد تعني فروغ بالولادة فهمها للألم ومعايشته بطريقتها الخاصة دون خشية من الاعتراف بعمق جرحها وذعرها منه، وربما قدرتها على تدمير المرأة القديمة أو حتى تلك التي ستولد لاحقًا، فروغ التي تدمر في كلّ قصيدة امرأة وتخلق أخرى بمقاييس حرية ورغبة جديدة، فكل شكل لحياتها هو حرية وهو ما تودّه وما لا تودّه أيضًا، وهذا ليس تشوش ذاتيّ بل قدرة شعرية عالية على تقبل كلّ الأشكال التي قد تكونها وما هذا إلا حريّة شهية لامرأة مثلها كسرت الكثير من القيود والشروط المسبقة.
“معشوقي كالطبيعة..
يحمل مفهومًا ناقصًا صريحًا
بهزيمتي يؤيد قانون قدرته على كسري
بتوحشٍ مرٍ”
في قصيدة “الرياح ستأخذنا معها” يبدو هذا النضج جليًا في فهمها لمصدر ألمها وتقبله وعنايتها به ومعايشة لحظات سعادتها داخل هذا الألم. وهذا ما ترتكز عليه الكثير من قصائدها، بالإضافة لملامستها وجدانية الموت داخلها.
“هل تسمع هبوب الظلام؟
أنا أنظر لهذه السعادة بغربة
أنا مدمنة على يأسي
هل تسمع هبوب الظلام؟
في الليل شيء ما يمرّ”
“فلنؤمن بطليعة الموسم البارد”، 1974: عصارة التجربة
نُشر هذا الديوان بعد رحيل الشاعرة، وحمل عنوان إحدى قصائده، والتي قد أميل إلى تسميتها “عصارة التجربة”، حيث نجد ملامح ثابتة للألم وشكلًا للمرأة التي تعرّفت إليها فروغ عبر مراحل طويلة من الحروب مع ذاتها ومحيطها وأحلامها، إنها خلاصة الجسد والروح والجنس والسياسة.
“وهذه أنا
امرأة وحيدة
قرابة موسمٍ بارد
في بدء فهم وجود الأرض الملوث
بيأس بسيط وسماء حزينة
وعجز هذه الأيادي الإسمنتية”
تستخدم فروغ صورًا رقيقة لكنها تحمل ذلك الصوت الحاد للألم، تخاطب فيها قارئها كأنها تودّ أن تترك ألمًا مباشرًا، كأنّ صورها شكلٌ لوجودها وتواصلها مع الحياة، فالأشياء الرقيقة هي من تصنع عادةً أثرًا يدوم طويلًا
“الآن نبتة الجوز كبرت
للحد الذي تستطيع أن تفسر للجدار
طراوة أوراقها اليانعة”
أستطيع القول إن فروغ في هذا الديوان- الذي جاء متأخرًا على حياتها- تكمل فيه دورةً كاملة حول الشعر لتبدأ أخرى. تحمل هذه المجموعة وهجًا مرعبًا لفهم المرأة الوحيدة والمنبوذة لذاتها، لن أسميه تجاوزًا لنفسها لأن هذا الشعر يخصّ كل ما قالته سابقًا لكن مع نظرة أعمق وأكثر بعدًا.
“أنا عارية.. عارية.. عارية”
كالصمت ما بين حديث العشاق .. عارية
وجروحي كلها من الحب.. الحب.. الحب”
\
“عقلي لا يزال ممتلئا بصوت وحشة
تلك الفراشة التي صلبت بدبوس في الدفاتر
عندما كانت ثقتي مصلوبة بخيط العدل الرفيع
وفي المدينة كانوا يمزقون أضواء قلبي قطعة قطعة”
في النهاية تؤلمنا فقط 33 سنة من الشعر، لكن هناك شيئًا يذكرنا دومًا أن الجمال لحظةٌ أقصر من أن نحصل عليها، وربما كانت فروغ من النجوم التي انطفأت سريعًا، لكنها علمت معنى أن تكون ضوءًا. في يوم 15 شباط/ فبراير من كل عام يجتمع محبوها حول قبرها ويضيئون الشموع. بعد سنوات على موتها، حين لم يقبل أحد بأن يؤم الصلاة عليها تبرع الأديب والناقد مهرداد صمدي لفعل ذلك. إنها من الشعراء الذين يعيشون كلما نقرأهم مرّة جديدة.
ضفة ثالثة