فشل الثورة وحلب المدخل-2: عمار جلو
عمار جلو
(تسعة عشر رجلا ماتوا من اجل صندوق)
تحضرني هذه العبارة التي رددها الكثيرون في برنامج الطفولة المسمى (جزيرة الكنز)
واخشى أن نردد نحن أن ربع مليون سوري ضحوا من أجل الدولة الفاشلة أو اللا دولة.
فالثورة التي أنطلقت بعفويتها متأثرة بالربيع العربي الذي أسقط انظمة تعتبر بردا وسلاما امام النظام السوري , بدأت بمظاهرة الحميدية _ وزارة الداخلية , واشتعلت شرارتها بدرعا , ومن قبلهما حادثة الحريقة الشهيرة التي تشبه الأنذار المبكر لهذا النظام كي يقود عملية التغيير والأصلاح بنفسه , الإ أن عكس ذلك ماعبر عنه رأس النظام حينها لمجلة غربية ( أن الشعب السوري بحاجة إلى جيل كامل لممارسة الديمقراطية )
تطايرة شرارة الثورة من درعا إلى مدن ومناطق مختلفة , محافظة بكل الأماكن على سلميتها ونقائها , غير أن نظرة سلبية ولدت تجاه بعض المدن التي لم تشهد حراكاً ثوريا بحجمها وفي مقدمتها دمشق وحلب , دون تحليل عميق لواقع هذه المدن لمعرفة آلية تحريكها أو الأستفادة منها.
ولابد من التنويه هنا لأمر غاب عن السوريين في ثورتهم , أن الثورات لا يحكمها مبدأ الأقلية والأكثرية الحاكم للأنتخابات والبرلمانات , فالثورات يصعنها القلة وكذلك التحولات التاريخية , فالثورة الفرنسية لم تتعدى نسبة المشاركة بها 3% تقدمت عليها الثورة الإيرانية بنسبة 7% والثورة المصرية مابين 9_ 10% وحطمت الثورتين اليمنية و السورية كل النسب حيث بلغتا أعلى النسب بالعالم حيث وصلت 20% بالمظاهرات السلمية التي تحولت بسوريا إلى العمل المسلح بفعل القمع الدموي من جانب النظام .
بالأيام الأخيرة من شهر تموز أعلن لواء التوحيد بالريف الشمالي لمحافظة حلب عن الدخول للمدينة لأدخالها بالثورة أو دخول الثورة فيها , ناصرته ألوية اخرى بحماسة ولم يكن هذا القرار الإ تنفيذا لسياسة خبيثة أرادها الأخوان المسلمين الفصيل السياسي المعارض سعيا منهم للتأثير والتأخير على معركة دمشق التي كانت بالاعداد النهائي لها , فالشام ليس لهم فيها رجال ولم يستطيعوا اختراقها فسعوا لافشال معركتها التي هي معركة سوريا كلها , فتم فتح معركة بالحديقة الخلفية لحركتهم , اضافة لسعيهم لإيجاد ركيزة ومقر لعمل المعارضة بالداخل بعد أن أدمنوا بريق المدن الكبرى .
هذه المدينة التي يقطنها حوالي 3.5 مليون نسمة, قادرة على إستيعاب 1.5 مليون أخرين دون تأثير يذكر عليها , وهذا ما يجعلها مدينة مثالية لنزوح السوريين , وإذا اضفنا أنها العاصمة الأقتصادية للبلاد فهي قادرة على تأمين فرص عمل لحوالي 150الف شخص ايضا عدا عن الأشخاص الذين سينقلون نشاطهم المهني والأقتصادي معهم.
كل ذلك يؤدي فيما لو تركت المدينة لمسيرها الطبيعي بالثورة لبقاء النشاط الأقتصادي فيها , وينتج عن ذلك بقاء السلع والمواد الضرورية للمواطن السوري متوافرة وبالاسعار المعقولة , ولم نكن نشاهد هذه الأزمة الأنسانية للسوريين او على الاقل لتقلصت حدتها كثيرا, مع ما يمكن أن تقدمه الطبقة التجارية والصناعية الحلبية من دعم مالي للثورة والثوار وهي طبقة كبيرة ,حتى بعد أسقاط الفئة القليلة المرتبطة عضويا بالدائرة الأقتصادية للنظام , وكل كلام يصف تجار المدينة وصناعييها بالتخاذل ومحاربة الثورة هو كلام هزيل ومجافي للواقع الحقيقي لهذه الطبقة التي تضررت كثيرا من النظام , فقد تم أرجاعها للمقعد الخلفي بمسيرة الأقتصاد بتشكيل مافيا اقتصادية ارتبطت بالنظام لتقود السوق دون أن تكون من أبناء هذا السوق.
وكما قفزت الثورة البلشفية عام 1917 بالمجتمع الروسي من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الأشتراكي دون المرور بالمجتمع الرأسمالي , قفزت الألوية إلى المدينة دون المرور بالقطع العسكرية والثكنات الموجودة بطريقها إلى المدينة,ولآحقا حين أرادوا ردم هذه الحفرة التي قفزوا فوقها كان الأمر يحتاج لأمكانيات مضاعفة للحفاظ على مواقعهم بالمدينة و فتح معركة أخرى بمواقع تركوها خلفهم , وقد وصلها تعزيزات كبيرة بالفترة التي تبعت دخولهم المدينة ولذلك لم يحرزو تقدم يذكر سوى بالفوج 46بالريف الغربي (الذي تراجع لآحقا عن دخول المدينة لما تأكد له خطائها) ومدرسة المشاة .
ارتكبت خطائها الثاني بمخالفتها لمبدأ حرب العصابات الذي يفترض على ألوية الجيش الحر أتباعه التي تعتمد الضرب والهرب القائمة على سهولة الحركة , فقد حصرت نفسها وأعطت لخصمها حرية الحركة وتجميع ما يشاء من القوة لبدء المعركة وتوقيتها .
نتيجة لذلك تتابع التدمير بكل الأحياء التي تجمعت فيها فصائل المعارضة المسلحة والتي تقاطرت إلى المدينة لآحقا من كل صوب تحت شعار تحرير المدينة التي يبدو من مجريات الأمور فيها أنها لن تتحرر , بالعكس من ذلك فقد غدت الباب الذي يمر منه فشل الثورة نتيجة لأخطاء قاتلة تمت في هذه المدينة.
هناك مثل شعبي يقول (إذا بنتي ماتت خلي كل بنات العرب تموت) هذا ماحمله كثيرا من الثوار المسلحين معهم , فأذا دمرت واحرقت بيوتنا فلا مانع أن تدمر بيوت الأخرين نتيجة النظرة السلبية , فهذه المدينة الكبيرة والكثيرة السكان لا وجود لعلاقات اجتماعية قوية بين العوائل فيها , فالمثل الأشهر فيها (يا جاري أنت بحالك وأنا بحالي ) مما يعني عدم أمكانية تفاعلها كغيرها من المدن , يضاف لذلك أنها تمتاز بطابع مدني وليس فيها تأثير عشائري يمكن التعويل عليه , وبوصفها الأقتصادي فهي شديدة الحساب بالربح والخسارة وليس هناك فئة تجاري او صناعية بالارض تنخرط بعمل كهذا من بدايته دون الطمئنة إلى مكاسب تنشدها او الحفاظ على مركزها بأقل تقدير , وغياب الشخصيات المعارضة عن هذه المدينة ساهم بقلة تفاعلها ورغم أن شخصيات كثيرة من أعلان دمشق هم أبناء المدينة الإ أنهم غير معروفين فيها وليس لهم اي تاثير او كاريزما لقيادة حراك بمدينة بحجم حلب , والعامل الأهم على الأطلاق هو غياب اي دور أيجابي لرجال الدين بالحراك الثوري لهذه المدينة المشهورة بمحافظتها ومكانة رجال الدين فيها , ولم يُشهد لاي رجل دين أن تكلم بخطبة الجمعة ما يدعم هذا الحراك بل كان العكس .
فلم تمضي المدينة وقتا طويلا لأفساد أو لأظهار فساد من دخلها من الفصائل المسلحة حين دخلوا منظومة المال والسلطة فيها , وهي الشهيرة بأفساد مسؤولي النظام أو زيادة فسادهم لما تحويه من أموال .
و وصل الحال لاحقا لصدور فتاوي تبيح المال العام والخاص فيها تحت مسميات كثيرة من الدعم العسكري إلى الأغاثة وغيرها حتى لم يبقوا شيء يذكر بالمدينة ,فقد تم سحب أكبال الهاتف من تحت الأرض لبيعها بعد أن بدأت موارد المدينة تجف امامهم عدا عن عمليات الخطف لكسب المال بحجة أنه شبيح هذا المصطلح الذي لن تضع الثورة له تعريف على ما يبدو .
وظهرت الألوية المتخصصة ببضائع معينة (النحاس _ القطن )غيرها المشهورة بالسلب والنهب تشارك بين الفينة والأخرى بأشتباكات ضد الجيش النظام مع الوية أخرى حتى تبقي صلاتها بالثورة لمصدر للثروة , وللمصادفة فلواء أحرار سوريا الأكثر شهرة بالسلب والنهب يقدم السلاح للهيئة الشرعية وللواء التوحيد وبعض الفصائل حين سعوا لضرب غرباء الشام بسبب السرقات التي يمارسونها .
في شهرتشرين الثاني لعام 2012 تم الأعلان عن تشكيل المجلس الأنتقالي الثوري لأدارة المحافظة , وكانت الخطوة من الفصيل العسكري الذي دعا لدخول المدينة وخلفه الفصيل السياسي نفسه سعيا منهما للسيطرة على موارد الدعم المدني والعسكري للمحافظة ساعدتهم دول أقليمية بذلك.
تم هذا التشكيل بطريقة أقصائية فاضحة وحمل ضمنه لون واحد فقط , فقد تم الأعلان عنه وترأسه وترأس مكاتبه ومن ثم دعوة الأخرين لتعبئة المكاتب كرصيد شعبي يضيفونه لهم ,وبنفس الوقت شكلوا مجلس عسكري بنفس الاسلوب مما جعل التجاذبات والأنقسامات تطفو على السطح لحد كبير, لما تبع ذلك التصرف بمقدرات المحافظة بما يفيد سياستهم فيها , موزعين بعض الحصص الصغيرة لكسب الولاءات ومحتفظين بالقسم الأكبر لفصيلهم , وقد روى لي احد لأاشخاص عن حصص الأضاحي الفاسدة بأحد مستودعاتهم فيما الناس تعاني الأمرين بلقمة عيشها.
دخلت جبهة النصرة إلى المدينة ورسخت وجودها بدايةً بمعارك شرسة مع قوات النظام وكانت حليف قوي لفصيل التوحيد بالمدينة فهو الذي يقطف ثمار عملها أعلاميا بكل المعارك , نتيجة للقطيعة بين النصرة والأعلام وقد ساهم ذلك بتعزيز صورته كقوة بالارض, أضافة لما ينفذه الأخوان بهذا الجانب من تحالف ودعم للقوى الأسلامية المتشددة لتضخيمها حتى تظهر كفزاعة للأخرين تجعله الطرف المعتدل والمقبول دوليا ومحليا وقت الصفقات , وهذا ما نشاهده بالساحة السياسية لدول الربيع العربي ,وانقلاب التيار الأخواني على السلفيين هناك بعد وصوله للحكم .
وقد كانت جبهة النصرة التيار الأقوى بتشكيل الهيئة الشرعية وهم الذين ينطبق عليها قول الأمام الغزالي ( إن أنتشار الكفر في العالم يٌرد نصفه للمتدينين الذين بغضوا الله للأنسان باقوالهم وأفعالهم )
فالهيئات الشرعية موجودة بغالب المناطق السورية المحررة الإ أنها بهذه المدينة فقط ولآحقا بمدينة دير الزور والرقة كرست سيطرة الطرف الأكثر تشددا لممارسة سلطة القضاء وفض المنازعات وهذا مبدأ قاتل , ورغم وجود طرف أقل تشددا غير أنه لايمتلك سلطة حقيقية وتكرس هذا الأنقسام بين الطرفين ليصل الحد لأعتقال النصرة للقضاة بعد الأعتداء عليهم بحادثة ملكية مبنى المحكمة.
بدأت الأحتكاكات العربية الكردية بهذه المدينة وريفها ايضا ,وخرجت منها احدى الفصائل المسلحة إلى مدينة رأس العين والذي تبعه صدامات عربية كردية هناك , فساهم ذلك بحينه عن أرتفاع أسهم حزب العمال الكردستاني لدى الأخوة الأكراد, وقبلها كانت اسهمه بالحضيض بسبب تحالفه مع النظام
المقدمات الصحيحة تؤدي لنتائج صحيحة , كما يقول علم الرياضيات
وبالمفهوم العكسي لهذا المبدأ يمكن وصف معركة حلب أنها لم تحقق اي دفع للثورة بل جرتها للخلف فالتدمير المريع الذي نالته يتشارك به الطرفين , طرف بأجرامه ودمويته وطرف بعشوائيته ونرجسيته , فمن يريد مصارعة الدب عليه سلفا ان يدرك حدة مخالبه وقسوة ضرباته ويفترض به تبعا لذلك اللجوء للعقل والحكمة لا العكس .
قد غاب الوعي الثوري عن المشهد نهائيا ,هذا الوعي المعول عليه اساسا بالثورات والإ فما معنى الثورة بغيابه , وهي التي تُعرف بأنها أسقاط نظام قائم لأقامة بديل أفضل , دمرت المدينة حاضرا وماضيا وربما مستقبلا بعد توقف حركة الأقتصاد فيها وهو شريان حياتها , مصانعها توقفت ونهبت ودمرت , وأنتقلت رؤوس الأموال مع أصحابها إلى مصر وتركيا وهيهات لأعادة رأس مال فر من وطنه بالمستقبل القريب .
محامي وناشط سياسي – إدلب
خاص – صفحات سورية –