“فصليّة العالم الثالث”: استدعاء الاستعمار.. وبلا أقنعة/ محمد الأسعد
لم تمض سوى أسابيع قليلة على نشر مقالة بعنوان “دعوى لصالح الاستعمار” لأستاذ العلوم السياسية الأميركي بروس غيلي، من جامعة بورتلاند الحكومية الأميركية، في مجلة “فصلية العالم الثالث” (15 آب/ أغسطس 2017)، حتى تقدّم نصف أعضاء هيئة التحرير البالغ عددهم 34 عضواً، باستقالة جماعية احتجاجاً على أمرين؛ على نشر المقالة حتى بعد أن صدرت توصية بعدم نشرها، وعلى أن رئيس التحرير، أو المحرّر الذي قام بنشرها، لم يستشر هيئة التحرير ولا أطلعها على تقارير من قاموا بمراجعتها ورفضوا نشرها.
ولكن.. قبل أن يحدث هذا، اندلعت إثر نشر المقالة، وفي هذه الفصلية بالذات، والتي استمدت اسمها منذ أربعين سنة من حركة عدم الانحياز، ومقاومة السياسات الاستعمارية، موجة من الإدانة لها ولكاتبها في مختلف أنحاء العالم، على الصعيد الأكاديمي والثقافي العام، وبدأ “المنبر العالمي من أجل التغيير” من موقعه الإلكتروني حملة جمعت أكثر من عشرة آلاف توقيع على مذكرة احتجاج خلال أيام قليلة، قُدمت لرئيس التحرير “شاهد قادر”، تطالب بإزالة المقالة من على صفحات المجلة والاعتذار للقرّاء الذين صدمهم ما جاء فيها.
يمكن ترجمة عنوان المقالة، المقدّم بصيغة دعوة إلى إعادة النظر في كل ما اتهم به الاستعمار الغربي، على أنه دفاع عن هذا الاستعمار، بل وهجوم على حركات التحرير التي عملت على تصفيته، إلى درجة القول إن إعادة التقييم هذه مطلوبة “في ضوء الخسائر الإنسانية الباهظة التي تسببت بها سياسات وأنظمة معادية للاستعمار”! وزعم صاحب المقالة أن هذا سيحمل معه “إعادة التأكيد على أولوية الحياة الإنسانية، والقيم الكونية، والمسؤوليات المشتركة، ورسالة الاستعمار الحضارية التي أدت إلى تحسين ظروف حياة غالبية شعوب العالم الثالث خلال معظم وقائع الاستعمار الغربي”.
خلاصة هذه الدعوى، كما كتب صاحبها: “أن اسم الاستعمار الغربي اكتسب طيلة المئة عام الأخيرة دلالة سيئة، وآن أوان وضع هذه الدلالة المتعصّبة والمتشدّدة (الأرثوذكسية) موضع تساؤل. وكقاعدة عامة، كان الاستعمار الغربي مفيداً وشرعياً من الناحيتين، الموضوعية والذاتية، في غالبية الأماكن التي حل فيها بمقياس واقعية هذين المفهومين، فالبلدان التي احتضنت موروثها الاستعماري على نطاق واسع، وبوساطته، قامت بما هو أفضل مما قامت به البلدان التي رفضته وازدرته، وآذت الأيديولوجيا المعادية للاستعمار الشعوب التي خضعت لها، وما زالت تواصل إعاقة التنمية المستدامة وتعترض وصول الحداثة إلى الكثير من الأماكن”.
ويصل صاحب هذه الدعوى إلى القول إن “الاستعمار يمكنه أن يسترد عافيته اليوم، أو يتم استصلاحه” حسب تعبيره، بطرق ثلاث: “أولاً، أن تستنسخ حكومات وشعوب الدول النامية حوكمة ماضيها الاستعماري، كما فعلت بلدان ناجحة مثل سنغافورة في آسيا وبوتسوانا في أفريقيا وباليز (هندوراس البريطانية سابقاً) على شاطئ الكاريبي، وأن يحل محل جدول أعمال الحوكمة الذاتية للدول الفقيرة جدول أعمال حوكمة استعمارية. ثانياً، أن يعاد استعمار بعض المجالات، ويجب تشجيع الدول الغربية على الإمساك بالسلطة في مجالات حوكمة محددة مثل المالية العامة، والعدالة الجنائية.. وبدلاً من الحديث بتعابير ملطّفة عن سيادة مشتركة أو وصاية جديدة، يجب أن تسمى هذه الأعمال صراحة “استعماراً”، لأنها ستحتضن السجل التاريخي بدل أن تتجنبه. ثالثاً، قد يكون ممكناً، في بعض الحالات، إنشاء مستعمرات غربية جديدة مقابل خدمات متبادلة”!
ركزت الإدانة الواسعة لهذه المقالة من قبل باحثين وأساتذة في مختلف أنحاء العالم على أنها لا تلبي أبسط شروط البحث الأكاديمي ومعاييره، فهي تفتقر إلى أدلة وبراهين تثبت صحة مزاعم صاحبها، وتتميز بانعدام دقة “معلوماتها” التاريخية، بالإضافة إلى احتوائها على مغالطات ماكرة.
وجاءت تفاصيل أخرى في نقد بعض ممن تناولها من الباحثين، مثلاً الإشارة إلى أن كاتبها تجاهل أول 300 سنة من سنوات الاستعمار الغربي، مخفياً بذلك جرائم هذا الاستعمار ضد الإنسانية، فهو يقتطف مثلاً قولاً لكونغولي جاء فيه “ربما على البلجيكيين أن يعودوا”، مغفلاً إغفالاً تاماً إرهاب الملك البلجيكي ليوبولد الثاني (1865-1909) الذي قتل في عهد استعماره للكونغو ما يقارب عشرة ملايين إنسان، وكان جنوده يغتصبون النساء بشكل منتظم، ويقطعون أيدي المزارعين وأطفالهم ويحرقون قراهم، حسب تحقيقات الأميركي آدم هوكشيلد المنشورة في عام 1999.
وكشفت باحثة عن تهافت كاتب المقالة حين نسب “فضل إلغاء تجارة الرقيق إلى الاستعمار”، فهذه النسبة، بالإضافة إلى سخفها، أكذوبة صريحة، لأن حركة تصفية الاستعمار المنظمة، وحروب الاستقلال، هي التي وضعت حداً لهذه التجارة. وهذه مجرد أمثلة بالطبع، لأن لدى الكاتب الكثير من المزاعم، فقد نسب إلى عدد من قادة تحرير بلدانهم مثل الكونغولي باتريس لومومبا (1925- 1961)، والغيني بيساوي أميلكار كابرال (1924- 1973)، ما ليس فيهم؛ يقول كان لومومبا، والذي اغتالته شركات النحاس البلجيكية، “عاشقاً للاستعمار البلجيكي”، والثاني الذي اغتيل وبلاده على وشك نيل استقلالها، أساء بنضاله إلى شعبه وجلب عليه الكوارث، ولا ينسى إضافة الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي (1930- 2013)، والذي تناول في رواياته، وأشهرها “أشياء تتداعى”، الآثار المدمرة للاستعمار البريطاني على المجتمعات الأفريقية، إلى جوقة المساندين للاستعمار.
التجاهل والإخفاء والمغالطة سماتٌ جامعة لهذه المقالة، ونعتقد أن مصيرها لن يكون أفضل من مصير دعوى أخرى تعود إلى الذاكرة الآن حملت المعنى نفسه، وخصص لها أستاذ قانون أميركي يدعى “آلان ديرشوتس” (1939) كتاباً عنوانه “دعوى لصالح إسرائيل” (2003)، أي دفاعاً عن الاستعمار الصهيوني، انتحل فيه مقولات أقدم لصحافية أميركية تدعى “جوان بيترز” (1936-2015) نشرت في عام 1984 كتاباً عنوانه “منذ زمن سحيق”، زعمت فيه بصفاقة قلّ نظيرها أن لا وجود لشعب اسمه الشعب الفلسطيني، لتصل إلى القول، وبالتالي كيف يكون هناك استعمار لأرض شعب غير موجود؟! وكرّر “أستاذ القانون” ذاك في دفاعه عن “إسرائيل”، في وجه الانتقادات الواسعة التي أصبحت تواجهها في مختلف الأوساط السياسية والفكرية والأكاديمية مزاعم تلك الصحافية، بعد أن انتحلها. وتستحق قصة الكشف عن تلفيق وكذب هذا المنتحل وتلك التي استمد منها ما انتحله التذكير بمناسبة الحديث عن مقالة غيلي.
بدأت القصة بالضوء الذي سلّطه نورمان فنكلشتين على كتاب ديرشوتس، فكشف عن أنه كتاب قائم على الخداع، وبعض استشهاداته منتحلة من كتاب جوان، وهو الكتاب ذاته الذي راجعه فنكلشتين بدقة فور صدوره حين كان طالباً في جامعة برنستون، وأظهر أنه كتاب قوامه خداع وتلفيق معلومات من المحتمل أنها جمعت على يد جهاز مخابرات أو ما يماثله، وصدر باسم تلك الصحافية.
وآنذاك، كما يروي نعوم تشومسكي (1928) في مقالة له عنوانها “مصير مثقف نزيه” في كتابه “فهم السلطة” (2002)، تعرض كشف فنكلشتين للتجاهل، بل وقاطعه أساتذة جامعته، وأقيمت عقبات في وجه سعيه لنيل شهادة الدكتوراه. واللافت للنظر في هذه القصة قول تشومسكي إنه كان الوحيد الذي اتصل بفنكلشتين، وقال له، نعم.. إن كشفه مهم، إلا أنه حذّره من أنه إذا لاحق هذا الموضوع فسيتعرض لمتاعب، بسبب أن سعيه سيظهر أن المجتمع الثقافي الأميركي عبارة عن عصابة محتالين، ولن يحبوا حقيقتهم هذه، وسيعملون على تدميره.
ما حدث بعد ذلك أن كتاب جوان المخابراتي وجد ما يستحق من فضح في الصحافة البريطانية، وإثر ذلك ألقاه، حتى من امتدحوه في أميركا، في سلال القمامة، ووصل الأمر بالصحافة الإسرائيلية إلى أن اعتبرت ضرره أكثر من نفعه، لأن تلفيقه صار مفضوحاً، وإنكاره لوجود الشعب الفلسطيني صار مضحكاً.
مقالة بروس غيلي تحمل المنطق ذاته، المنطق الذي ينكر وجود الاستعمار الذي دمرّ وأباد ملايين من بني الإنسان، وسحق حضارات ذات نظم إنتاج مادي وثقافي، ويخترع “استعماراً” صاحبَ “رسالة حضارية” لا وجود له إلا في مخيلة أستاذ علوم سياسية مثل هذا، كما هو حال إنكار وجود حرب إبادة واقتلاع للشعب الفلسطيني من أرضه وقفت وراءها قوى الاستعمار الغربي، بزعم أنه لا وجود للشعب الفلسطيني حتى يمكن القول إن أرضه تعرضت للاستعمار.
العربي الجديد