صفحات العالم

فصول الدم/ مصطفى زين

لم تنته فصول الدم. ولا يتوقع أن تنتهي قريباً. فصول يتداخل فيها «ربيع الثورات» بخريفها. يتحالف فيها اليساري مع اليميني، والرجعي مع التقدمي، والمتدين مع الملحد، والإسلامي مع الكافر، والسياسي مع الإعلامي، والجهادي مع المتخاذل، و»الإخواني المعتدل» مع المتشدد، والأيديولوجي الدوغمائي مع الفوضوي، والديني مع الإلحادي، والعميل مع الوطني، والتابع مع السيد، ومعادي إسرائيل مع الداعي إلى مصالحتها، والماضوي مع الحاضر، والمفكر مع الجاهل، والأمي مع المتعلم، والتوحش مع التقدم، والحداثة مع القدامة، والغربي مع الشرقي، والمجتمع المحلي مع المجتمع الدولي، والمحارب مع المسالم، والقاتل مع المقتول، والذابح مع المذبوح…

إنها الفوضى لم تفرز ثورة، ولا فكراً ولا مفكرين، ولا مقاتلين، بل قتلة لا يعرفون عما يدافعون ولِمَ يقتلون. قتلة يهدمون المدارس والمستشفيات ودور الأيتام، وبيوت المسالمين. يقتلون الحاضر باسم الماضي.

هو المشهد ذاته من المحيط إلى الخليج. «ثوار» يرفعون رايات سوداء، يدّعون النضال من أجل غد أبيض. في صفوفهم مسلحون قادمون من أوروبا، فيها ولدوا وعاشوا وتعلموا، وعملوا. ومنها، بدعم من حكوماتها، خرجوا ليشاركوا في المقتلة. لا يعرفون عن البلاد التي يخربونها سوى القليل. قليل تلقنوه من وال جاهل، هو الآخر لا يعرف شيئاً إلا ما أخذه عن جاهل أخذه عن جاهل آخر، قليل أوَّلَه «مثقف» تأويلاً دينياً، مثقف لم يتخرج من الأزهر بل من جامعات في ألمانيا أو فرنسا أو إنكلترا. أو البسه «مثقف» آخر لباساً ماركسياً، معتبراً ما يدور صراعاً طبقياً بين العمال والفلاحين من جهة، والرأسماليين من جهة أخرى، وهو لم يحفظ من الماركسية سوى هذه العبارة، بواسطتها يقارع هيغل كي يجعل «التاريخ يسير على قدميه» بدلاً من السير على رأسه. ويدحض آراء فلاسفة عصر التنوير في الحرية والتفكير العقلي والشك واليقين، وفي السياسة والاجتماع والمجتمع والدولة…

«الثورة» المنطلقة من «الربيع العربي» لم تفرز قائداً واحداً صاحب رؤيا (عدا هنري برنار ليفي المتنقل بين مقاتليها من ليبيا إلى سورية إلى أوكرانيا)، لا قائداً ميدانياً ولا قائداً فكرياً. كيف يقود مفكر قادم من قرون الظلام والفرقة والتناحر ثورة في القرن الواحد والعشرين؟ كيف يقود زعيم ثورة وكل همه فتاوي النفاس والجماع والطهارة والنجاسة؟ وإلى اين يقودها ويقود الجماهير؟ كيف يفكر وهو يحرِّم قراءة المفكرين المسلمين قبل الغربيين، من الفارابي إلى إبن رشد إلى إبن خلدون… فضلاً عن تكفيره العقل ذاته؟

هي فصول الدم. «ثورة من أجل الحرية» من دون أحرار يقودونها.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى