صفحات الرأي

فضيلة الربيع العربي: اكتشاف البنى/ عبدالأمير الركابي

غيّب طغيان النزعة الايديولوجية حقيقة التكوينات والبنى «الوطنية»، وأحلّ فكرة افتراضية عن اوطان ودول تقارب مفهوم «الدول الامم» الاوروبية. ليس المجال هنا مجال مناقشة التعارض بين رفض تقسيمات او تخطيطات سايكس بيكو، وبين السياق الذي نشأ عنها مكرساً تصورات عن اوطان كاملة المقومات لتصبح مع الوقت مدار تعصب، الاغلب انه تعصب سابق على المفهوم الايديولوجي الحديث، يتغذى منه. ففي ماضي الآداب العربية، لم تنعدم التوصيفات التي تميز المواضع، عراقاً، او شاماً، على سبيل المثال، وكذا مصر. وثمة مقارنة منسوبة الى الجاحظ يقابل فيها بين طبائع اهل الشام وطبائع اهل العراق، كذلك اشتهرت أحكام مثل كون مصر «على دين ملوكها»، او ان اهل العراق، وفق الحجاج، «اهل شقاق ونفاق» بينما اهل الشام ديدنهم الخضوع.

والحديث هنا ذو شجون. الذي يهمنا منه انه ينم عن انتباهات هي في العمق اشارات الى ما هو ابعد من السطح، ذهاباً الى تجليات البنى كما استخلصت في الماضي عبر التجربة والمراقبة وتوالي الحدثان.

لا يمكن اليوم تجاهل واقعة انهيار بنى الحداثة في السياسة والدولة، يبدو مثل هذا المآل صارخاً في الحالة العراقية، ومع ان هذه يصعب دمجها ضمن تيار الربيع العربي، وهي نتجت من احتلال عسكري وتدمير عام لبنى دولة حديثة اكراهية عمرها 82 سنة، وقع قبل الربيع بثماني سنوات، إلا ان مصير غيرها لاحقاً عرف النتيجة ذاتها، وإن بفعل فاعل «ذاتي»، باستثناء ليبيا التي تكرر فيها الفعل العسكري الخارجي الحاسم. هذا المآل الفريد يستثير التساؤل في صدد ما اذا كان هذا الذي ظهر من تحت قشرة او عباءة الدولة الحديثة الايديولوجية، يتضمن بالفعل الحقيقة الاصلية للبنى الوطنية، ام انه حالة اخرى، حالة متولدة من تفاعل البنى التقليدية مع تجربة الحداثة المنهارة وقد دامت لعقود.

الجديد اليوم في المشهد أن النظر قد تغير، فأُضيف اليه ما لم يكن متوافراً خلال تسيّد فكرة الحداثة في الدولة والسياسة والأفكار.

وقتها ربما طابق تقبل الأيديولوجيا كحقيقة نهائية تكويناً عقلياً اطلاقياً، يميز نمط علاقة العقل بالأفكار في هذه المنطقة من العالم. أما الآن وقد تكشفت جزر كانت قد اختفت تحت بحر الايديولوجيا، فأصبحت مقومات البحث في ما ترك وكان يفترض البحث فيه، ملزمة ومتاحة، على الاقل لمن يريدون او يفكرون بإكمال طريق انقطع. وبالنسبة إلي كعراقي، فإنني لم اعد استطيع النظر الى العراق ككيان، من دون اعتراف بأن هذا الموضع تحكمه دوائر ثلاث، نجمت عن تباينات تضاريسية موغلة، تولد عنها تباين في التكوين الاجتماعي وأحياناً اللغوي. وهذا دفعني لأن اجاهد كي افسر لماذا لم يتحول العراق الى ثلاث دول، إلا انني وجدت انه ليس شرطاً ان تكون الكيانات اوطاناً موحدة فقط في حالة الانصهار المجتمعي، وأن مثل هذا النمط المنسجم هو نمط اوروبي حديث، ليس من الحتمي ان ينطبق على كل الحالات، خصوصاً تلك القديمة. بعدها اوصلني البحث والمتابعة الى ان العراق هو «كيان امبراطوري»، وحيث بحثت في التاريخ وفي تجليات الكيان العراقي المتكررة، تأكد لدي أن ثمة تباينات تجعل هذا الكيان ثلاثي المجالات، ولكن مع عامل وحدة خفي وعميق يحول دون انفصالها، ويكرس تلازمها الوثيق، وأن الامبراطوريات خلال آلاف السنين، كانت هي الحالات الابرز لتحقق الوطنية في هذا المكان، فكان يتم الانتقال من الجزئية الى الامبراطورية، من دون المرور بـ «الوطنية». وهو ما حدث تكراراً ربما لستّ مرات في التاريخ ابتداء من الامبراطورية الآكدية، حتى الامبراطورية التي قامت بدفع الإسلام والفتح العربي.

لا تعني هذه النتيجة أنني افترض ان العراق ليس امامه سوى ان يتجدد امبراطورياً في العصور الحالية، فذلك قد يبدو مستحيلاً، او على الاقل غير قابل للنقاش، إلا اننا لا نستطيع بعد اليوم ان نفترض ذاتية تصورية للعراق لا تكون اقرب الى «فوق وطنية» او «وطنية مركبة». ليس كما هو الحال في مصر مثلاً، حيث التكوين الوطني بسيط، نشأ اصلاً بالتوافق مع النيل، وعرف الانسجام والدولة المركزية الاستبدادية، قبل اي مكان في العالم، ما جعل هذا المكان ضعيف الديناميات، وساكناً، مع ان هذه السمات اختلّت في الآونة الاخيرة، فلم يعد النيل قادراً على أداء دوره القديم المعتاد، بعد ان تجاوز عدد السكان وحاجاتهم طاقته على حفظ التوازن وتوفير المقدار اللازم من انسجامهم العام. وهذا على الاغلب هو العنصر الذي طرأ على مصر الحاليّة، وجعل الثورة فيها ممكنة، كما جعل تعثرها بديهياً. فحجم العوز عاد ليشخص بوجه مطامح التغيير، ما أعاد الى الجيش دوره التاريخي.

في سورية الأمر واضح، فالفارق بين التصور الأيديولوجي وما تكشف عنه مسار الصراع، مهول، إلا انه لم يعين بعد من جانب اهله. فالتخيلات حول البلد والكيان المنسجم، لا تزال قوية للغاية، ما اوجد حالة من التناقض المريع بين الافكار ومسار الاحداث وتجلياتها اجتماعياً، الأغلب انها ليست مرشحة لأن تطول الى ما لا نهاية، والخوف ان تنتهي الى كارثة احباط. ففي المنطقة كلها يتقدم شيئاً فشيئاً هاجس اعادة النظر في البنى، ليس لأن العقل قد اهتدى أخيراً في منطقتنا فالتفت الى ما كان متعيناً عليه ألا يهمله، بل لأن انهيار الحداثة بخاصة في مجال الدولة، صار يحتم انعطافة كهذه بعدما انبعثت بنى ما قبل الدولة، وطغت لتتحكم بالخيارات في المنطقة ككل.

أفق طويل وصعب ينتظر من يهمّهم التصدي لهذا المتغير، خصوصاً أن التمارين الابتدائية في هذا الخصوص غير متوافرة، ولا توجد لدينا اوليات خاصة بهذا الجانب من الاهتمام الضروري، كما ان المزاج العام السائد لم يصل الى درجة تقبل هذا النوع من المقاربة، علماً انها تحتاج الى افق غير موضعي. فوراء التفتت الحالي، يكمن خيط من المشتركات قد تشترط مقداراً من الشمولية الاستثنائية. فالمنطقة التي تتفتت اليوم، قد تكون، وهذا احتمال يؤيده اكثر من شاهد تاريخي، سائرة نحو نمط آخر من «الوحدة»، ربما لا تكون هي الوحدة الانشائية التي عرفناها، وقد تكون أرسخ مما تصورنا.

المهم ان الربيع العربي اخذنا من اكمال مسار الحداثة بـ «الديموقراطية»، الى اكتشاف بنى ما قبل الحداثة بعد انهيار بنى الحداثة. وبقي علينا الآن ان نكتشف آليات عملها في عالم اليوم ونعيد تحديثها. وهذه المرة من دون استسهال «ايديولوجي» يلغي الواقع.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى