فـي مديـح سوريـا… مستقبـلاً!
محمد دحنون
ليست سوريا جنة الله على الأرض، لكن ثورةّ ما قد تجعلها كذلك!
ليس للفرح بهجته في سوريا. أتت أزمنة قاسية، لم يكن للسوريين خلالها سوى رصيد قليل منه. بادلوا بالفرح «القضايا»، قرأوا على الجدران وفي كتبهم المدرسيّة أن «لا حياة في هذا القطر إلاّ للتقدم والاشتراكيّة»، لكنّ السوري الذي يقلب اليأس على قفاه ليصنع منه أملاً، هو كائن أبسط من الشعارات، أعمق منها، وأكثر اتصالاً بالأرض التي يحيا عليها، لن يقف طويلاً ليسأل عن التقدم والاشتراكيّة، لكنّه يصرّ على الاستفسار عن الحياة: أين الحياة؟! في غيابها، يرتكب السوري معجزاته اليوميّة: يعمل، يشتري، يأكل، يشرب.. لكنّ الغائب يحضر كلما تعمّدنا إغفال النظر إليّه: الكرامة.
مرّة أخرى، يلتف السوريّ على غيابها. لا يصنع ذلك متعمّداً. هنالك قبضة مسلّطة عليه تجبره على الالتفاف، يحاول اليوم الخروج من أسرها. يعلم أن لا مكان لوجوده في المكان الذي تحتل فيه القبضة الفضاء كلّه، القبضة تشبع الفضاء بالشعارات؛ لكنّ الشعارات التي تكتبها قبضة لن تكون سوى خربشات مؤلمة على جسد الوطن!
قبل سنوات كان السوري الذي لم يتجاوز بعد سنوات مراهقته يردّد في صباح كل يوم الشعار التالي: «عهدنا أن نتصدى للامبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة وأن نسحق أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة». نعرف اليوم ما حلّ بـ«عصابة الإخوان المسلمين العميلة»، لكنّا نسأل عن آثار تصدينا للامبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة، لم يزدادوا قوّة ربما، لكن، من دون شك، زدنا ضعفاً في «التصّدي» لهم. ليس ازدياد الضعف متصلا بميل السوري نحو المهادنة. هو مقاوم بالفطرة، قاوم بالأمس البعيد والقريب، ويقاوم اليوم، وسيقاوم غداً، ولن يمتلك أيّ أحد الجرأة، لكن قد يمتلك الصفاقة، ليدّعي أن هناك من علّم السوري المقاومة. لكنّ القبضة تدّعي أنّها هي الصمود لا أحد غيرها، وهي المقاومة لا أحد غيرها، وهي الممانعة ولا أحد غيرها. وفي هذه الأخيرة تصدق القبضة، تصدق حين يكون «استقرار إسرائيل من استقرار سوريا» هو جوهر «الممانعة». يرتدّ السوري إلى الخلف: لست ممانعاً!
يتساءل سوريون اليوم عن «الرسالة الخالدة» التي يفترض أن تكون لأمّتنا العربيّة الواحدة، يرون اليوم إلى الصور، التي تبثها وسائل إعلام «الامبريالية» و«الرجعيّة»، التي تخرج من بلدهم، بالتأكيد ليست الصور تلك «رسالتنا الخالدة»، حسبها أن تكون رسالة، أمّا أن تكون خالدة فهذا ما لن يرضى سوريون بأن يحدث. ليست هذه «رسالتهم الخالدة»، لديهم رسائلهم بالطبع، لكن هذه ليست من بينها. رسالتهم مكتوبة بدماء أبرياء. رسالتهم أن حريّة ما حان أوانها لتؤخذ مهما كلّف الأمر من تضحيات. لا ملاذ لهم في ظل القبضة، لا حريّة لهم إن لم يتحرّروا منها. ويبدون حتى اليوم «مجانين حريّة»، إذ لم يتركوا رصاصة تعتب على أجسادهم، لأنّهم يرفضون أن يتنفسوا بعد اليوم؛ لا شهيقاً ملوّثاً بالخوف ولا زفيراً ملتبساً بالذّل، هذه رسالتهم، التي، ربما، يحق لها أن تصبح «رسالة خالدة»!
تنتشر اليوم إعلانات «وطنيّة» في شوارع سوريا، يجمعها بطل واحد، يقود الكل. يقود الكل إلى الأبد، هو أو لا أحد! لا، ليس المقصود به الله. الله لا يقود «طريق الإصلاح». لا أحد يطلب منه ذلك في الأساس. «الأبد» كلمة وفيرة الحضور على جدران المباني العامة، وفي الشوارع، لا ينافسها في ذلك سوى كلمتي «نعم» ومنذ سنوات قليلة دخلت «منحبك» على خط المنافسة. لا اعتراض على «منحبك»، فالمحبة من عند الله، ولا «اعتراض على أحكامه»، هذا عدا عن كون الحب خياراً لا إجباراً، والكره كذلك بالمناسبة. لكنّ «الأبد» لها قصّة أخرى، يشارك فيها أيضاُ الله نفسه، إذ ليس «الأبد» السرمدي لأحد غيره. ليس لأحد طالما هو مرتبط بوطن، وطن يحتاج إلى تغيير، وطن تنفر تعدديته وتنوّعه من كل «أبد»، وطن ليس من مصلحته أن يرتبط اسمه بأي نوع من أنواع المطلق إن شاء لنفسه أن يبقى حيّاً، ففي الحياة لا «أبد»!
ليست سوريا جنة الله على الأرض، لكن ثورةّ ما قد تجعلها كذلك!
ثورة لا تعمل على جعل الشعار مصدراً للكرامة، في وقت تتيه خلاله كرامات الناس في الفضاء الذي تصنعه قبضة، ثورة لا تصنع من الشعارات بديلاً بلاغيّاً عن انتصارات لم تقع، في وقت يتحسس فيه الوطن آثار جراح نازفة من دون أن يجد طريقاً لترميمها، ثورة لا تهتف للأبد إن لم يكن أبد الحريّة!
(دمشق)