مراجعات كتب

فكر نقدي عربي يكشف مكر التاريخ/ موريس أبو ناضر

 

 

يتفق عدد من المؤرخين على أن القرن الثامن عشر في أوروبا شهد وضع الأسس الفلسفية والسياسية للفكر النقدي الذي ترافق مع بروز فكرة التقدم، وتحدّي التقليد والسلطة، ومع الدعوة إلى الإيمان بالعقل، والحكم ذاتياً على الأمور.

أشار كانط إلى أن التفكير النقدي يسعفنا في الاستنتاج لأنه يجعل من المساءلة والمراجعة والخلخلة أدواته وألياته، بغية محاكمة الأفكار والنصوص والواقع والتراث والسياسة والوجود. والفكر النقدي كما يرى منتجوه نشاط عقلي يفترض دوماً الانتقال من الميتوس (الأسطورة) إلى اللوغوس (العقل)، ومن الإدراك إلى الفهم، مع ما يصاحب هذا الانتقال من إرادة تهدف إلى كشف المستور وزعزعة الثوابت ومراجعة اليقينيات .

واجه الفكر النقدي تاريخياً، كما يعتبر ممارسوه، الفكر اللانقدي أو الفكر المتهافت أي المتعسّف في الأحكام، المفتقد للانسجام والتنظيم، المحاصر داخل بنية منغلقة، والعاجز عن مراجعة ذاته، أو التساؤل عن صدقية أفكاره.

برز نوعان من النقد في تاريخ الفكر الفلسفي، الأول هو نقد كانطي، ويستلهم مقومّاته من المرجعية الكانطية التي شكّلت لحظة مفصلية في الفلسفة، تمنح أهمية كبرى للمقولات والمعرفة من منطلق تحديد صدقيتها ودقتها وقيمتها المعرفية. أما النقد الثاني فهو النقد الماركسي الذي يشدّد على تعبئة قدرات العقل لتشخيص الواقع التاريخي والاجتماعي والسياسي وكشف آليات السيطرة والاستغلال المتخفية في ثناياه وفي سياقاته المتعرّجة. والنقدان- كما يرى المفكر الفرنسي ماتيو ليبمان- ينمّان عن فكر راق بقدر ما هو منتبه وإبداعي. فنمط الحياة الذي نختاره أو ننتجه أو نتقاسمه مع الآخرين مرتبط بنوعية أفكارنا، وتصوّرنا للحياة والإنسان. وسوء هذه الأفكار أو ضعفها ينعكسان بالضرورة على حياتنا، وقد نقدّم ثمناً باهظاً لتبرير تداعياتها على ذواتنا، وعلى علاقاتنا مع الآخرين، وعلى توازننا وصحتنا، ومواقفنا السياسية والدينية والفنية والمعرفية.

يضعنا كتاب محمد نور الدين أفاية «في النقد الفلسفي المعاصر» (مركز دراسات الوحدة العربية) في صميم الفكر النقدي مثلما تأسس في الغرب الأوروبي مع كانط وماركس، وتوسّع مع فوكو ودريدا وهابرماس، ومثلما انتعش في زمن النهضة العربية، وترسّخ وتطوّر في الستينات مع العروي والجابري ونصار والخطيبي.

لا تمكن مقارنة الفكر النقدي في الغرب، بالفكر النقدي العربي، فلكل منهما موضوعاته وشواغله، ولكل منهما غاياته ومقاصده. فالفكر النقدي في الغرب ارتبط بحركة عامة، فلسفية ودينية وسياسية، سعت إلى خلخلة البنية الفكرية والعقائدية والاجتماعية، اعتماداً على قاعدة فكرية تتبرّم من الفكر اللاهوتي، والخرافات التي كبّلت تفكير الإنسان الأوروبي. وهي تدعو إلى إطلاق حرية الفكر والمعتقد والقيام بنقد شامل للمؤسسات والأفكار والسياسات، وإخضاع كل المواضيع لميزان العقل، فيما الفكر النقدي العربي لم يؤسّس نظرية في النقد، وإنما أنتج بعض صيغ الاحتجاج والمؤاخذة، أو المطالبة بالإصلاح والتغيير والثورة، سواء بالدعوة إلى الرجوع إلى الماضي، أو إدخال قيم الغرب وطرقه في التنظيم المؤسساتي، غير أن المنطلق الإيديولوجي يبقى في كل الحالات طاغياً على الأدوات المعرفية والأساليب المنهجية، ويفرض الإيمان المذهبي، ويغيّب المفاهيم والأشياء. إلاّ أنه في العقود الثلاثة الأخيرة تبلور اتجاه نقدي يحاول مساءلة العقل العربي بهدف الكشف عن آليات هذا العقل وطريقة عملها.

هذا الاتجاه النقدي انصبّ على مساءلة العقل العربي في مكوّناته وأسسه المعرفية، مدركاً أن تدخّلاته تتمّ في سياق سياسي وفكري ونفسي يضخّم الصوغ الإيديولوجي، ويقزّم الممارسة النظرية والعملية. يشهد على ذلك توزّع الفكر العربي منذ زمن النهضة بين اتجاه سلفي وآخر ليبرالي، وسيطرة إشكالية مركزية تمثّلت في ما اصطلح على تسميته إشكالية الأصالة والمعاصرة التي عبّر عنها بسؤال مازال يرنّ حتى اليوم في آذان المفكرين العرب ومفاده : لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم ؟

نقد العقل العربي

يظهر أنه من بين أهمّ المحاولات ذات التوجّهات النقدية، توجّهات محمد عابد الجابري التي دشّنها في كتابه «نحن والتراث»، بحيث صفّى حساباته مع القراءات التي تعاملت مع التراث العربي، وتابع جهوده النقدية في كتاب «الخطاب العربي المعاصر» الذي حدّد فيه نوع النقد الذي يمارسه على النصوص، وهو النقد الإبستيمولوجي، تمهيداً لتحقيق مشروعه في نقد العقل العربي. وقد أوصله النقد الإبستيمولوجي الذي اعتمده في الحفر بحثاً عن الأنظمة المعرفية التي أنتجها العقل العربي إلى نتيجة مفادها «أن العقل العربي عقل يتعامل مع الألفاظ أكثر مما يتعامل مع المفاهيم، ولا يفكّر إلا انطلاقاً من أصل، أو انتهاء إليه أو بتوجيه منه. الأصل الذي يحمل معه سلطة السلف، إما في لفظه أو في معناه ، وأن آليته ، آلية هذا العقل في تحصيل المعرفة – ولا نقول في إنتاجها – هي المقارنة ( أو القياس البياني ) والمماثلة (أو القياس العرفاني )، وأنه في كل ذلك يعتمد التجويز كمبدأ، كقانون عام يؤسّس منهجه في التفكير ورؤيته للعالم» . وقد أوصله هذا النقد إلى الدعوة للتحرّر من التراث بـ « تحقيقه وتجاوزه «، وبالتحرّر من الغرب بالدخول مع ثقافته في «حوار نقدي»، وبممارسة «عقلانية نقدية» على النصوص والأشياء والعلاقات، وبإعادة النظر في الذات العربية، وخلخلة مكوّناتها العقلانية والوجودية كي تتحوّل إلى ذات مبدعة تفعل في التاريخ بدل الانفعال به.

لا يبتعد عبدالله العروي كثيراً في نقده الفكري عن الجابري، ذلك أن المفكّرين المغربيين في نقدهما للتراث والتاريخ والفكر الفلسفي والسياسة، يمتحان من المرجعية الأنوارية في كل طروحاتها. فالعروي يتمتّع، كما الجابري، بإلمام واسع بالتراث، وهو لا يدعو على خلاف الجابري إلى إعادة بنائه ، وإنما القطع معه باسم «التاريخنية «. والتاريخنية على ما يقول العروي « أدلوجة البلدان المتأخرة . إدراك التأخر هو إمساك بمنحى التاريخ «. ويضيف موضحاً أن التاريخنية لا تعبّر فقط عن وعي تاريخي بالـتأخر، وإنما هي الجواب العملي على الإحباطات السياسية والمؤسسية والثقافية، وبرنامج للنهوض من واقع التأخر الذي تغلّبت عليه أوروبا باتباعها نهجاً في الفكر والسلوك ، ثم فرضته منذ القرن العشرين على العالم كله. ولم يبق للشعوب الأخرى إلا أن تنهجه بدورها فتحيا، أو أن ترفضه فتفنى. هذا المنطق هو منطق العقل المجرد، والمصلحة الاقتصادية، وتكافوء الفرص، وهو منطق يسيّر اليوم العالم كله، شرقه وغربه، إما عن طريق التبعية أو عن طريق التقليد الواعي. وكل منطق آخر يعتمد على الإيمان والفضيلة والحق المجرّد هو منطق إقليمي لا يستسيغه الغير.

لا يختلف المفكر اللبناني ناصيف نصار، الذي يعتبره صاحب الكتاب قد ارتقى بعيداً في التفلسف حول القضايا الكبرى للإنسان والحياة، عن الجابري والعروي، فهو مثلهما يحمل هموم المجتمعات العربية، ومطالبها في النهضة والحرية والمساواة والعدالة والسعادة. وأنه يدعو إلى «نهضة عربية جديدة» تتجسّد بإعادة البناء في العمق، ينتج عنها «إطلاق قوى الحرية والعقل والخيال»، حرية الذات مع ذاتها، والتضامن في علاقة الذات بالآخرين، ونشر «الليبرالية التكافلية» وتعميمها على المجتمعات العربية، بغية تحقيق نهوض حضاري شامل، ومشاركة فعّالة في حركة العولمة .

ينهج الأديب والمفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي نهجاً نقدياً في كتاباته، يذكّر بكتابات الجابري والعروي ونصار ويتطلّع إلى « فكر مختلف « في الثقافة العربية، فلا يرى إلا التكرار المعمّم، سواء تعلّق الأمر بتكرار التراث، أو مفاهيم الغرب. فالتراث على ما يقول الخطيبي «يكبّلنا، والغرب يحاصرنا، ونحن لا نكفّ عن تقديسهما، أو التمرّد عليهما «. ويضيف أن المثقفين العرب يتعاملون مع الواقع العربي من دون وعي في كثير من الأحيان، فيطمسون التناقضات التي تحرك هذا الواقع، من هنا يتعين القيام بنقد مزدوج « ينصّب على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه «. لذلك لا بدّ من إرداف فكر الاختلاف بفكر السؤال، في حين أن السؤال في العالم العربي منبوذ ومكبوت، وحتى إذا ما تقدّمت بعض الجهات إلى التداول العام باسم «الرأي والرأي الآخر»، فإن الأمر لا يعدو مجرد ادعاءات تخفي وراءها خطة، لإشاعة القليد والفكر النابذ للاجتهاد والنقد .

كتاب نور الدين أفايا عن النقد الفكري كتاب يُقرأ.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى