فلنسحق الخسيس!
ياسين الحاج صالح
لا يصلح عدد شهداء الثورة السورية، وقد تجاوز تسعة آلاف، مقياساً وحيداً، ولا أساسياً، لفظاعة الشرط المفروض على سوريا، مجتمعاً ودولةً ووطناً، على يد نظام الاحتلال الأسدي. هذا الرقم مهول في حد ذاته. فهو يتجاوز عدد شهداء الثورات التونسية والمصرية واليمنية والبحرانية، ومعهما ضحايا الحربين الإسرائيليتين على لبنان صيف 2006 وغزة بين 2008 و2009. فوق أن المقتلة مستمرة، هناك أضعاف هذا العدد الآن من المعتقلين، كثرٌ منهم يُعتقلون للمرة الثانية أو الثالثة، يتعرض أكثرهم لتعذيب مفرط القسوة، ممتزج بالكره والتشفي، فضلاً عن جرحى يتعذر إحصاء أعدادهم، لكنها تقدَّر بما بين 4 و5 أضعاف عدد الشهداء. فضلاً أيضاً عن لاجئين في تركيا ولبنان والأردن يتجاوز عددهم 20 ألفاً حتى اليوم. معهم عدد كبير ممن هجروا البلد، أفراداً وأسراً، من دون أن يكونوا لاجئين، أكثرهم من مستوى تعليمي عالٍ ومن الطبقة الوسطى، ما يمثّل خسارة وطنية كبيرة.
1
تعداد الضحايا أمر بغيض، فكل حياة بشرية فريدة ولا تعوَّض. مع ذلك، فإن هذه الخسائر الأليمة المنظورة ليس إلا أظهر ما أصاب سوريا على يد نظام الاحتلال. أقلّ منها ظهوراً التحطيم الفعلي لشروط الحياة المادية في عشرات المواقع، وتراجعها الحاد في البلد ككل، مع التدهور الاقتصادي المتسارع (خسرت الليرة السورية نحو ثلاثة أرباع قيمتها حتى اليوم أمام الدولار الأميركي) ومستوى الحياة لأكثرية السكان. لا يكاد يكون خفياً أن ما تسببت به المقتلة المفتوحة من تدهور شروط الحياة السياسية يلغي أي إمكان للمصالحة مع النظام، الجهات السياسية والأمنية التي قررت الحرب، وقتلت وعذّبت وهجّرت عشرات ألوف السوريين. وأكثر حتى من شروط الحياة المادية والسياسية، ما جرى تقويضه فعلاً خلال عام من مواجهة النظام للثورة، هو شروط الحياة الأخلاقية التي تجعل من بلد ما وطناً، ومن سكّان شعباً. أعني وحدة المشاعر أو تقاربها، والتقويم المتقارب للأوضاع المتطرفة. كانت شروط الشراكة الوطنية متواضعة دوما في “سوريا الأسد”، لكنها بلغت حضيضاً رهيباً غير مسبوق من التدهور بعد عام من الثورة.
رأينا أمثلة على القسوة الوحشية وعلى تحطيم الرابطة الوطنية عبر المعاملة الاستعمارية لسكان المناطق الثائرة، وعلى الإبادة الرمزية للمجتمع الثائر (إجبار أناس على تأليه بشار وأخيه). وهي تكفي للقول إن ما يجري قتله عمليا هو سوريا، في ما وراء قتل ألوف السوريين وتنكيد عيش جميعهم. ولقد تكفلت وسائل الإعلان الحكومية نشر الكراهية وإعداد مناخات القتل الرمزي، فكانت معادلاً للقتل الفعلي الذي تثابر على القيام به قوات الاحتلال.
قد تكون لغة قديمة القول إن بلداً يجري فيه كل هذين العنف والكراهية بلد ملعون. لكن هناك شيئاً قديماً فعلاً في نوعية تعامل النظام الأسدي مع رعاياه المناكيد، منطق الاستعباد الملوكي للسكان والإنكار الجوهري للحرية عليهم. كان حافظ الأسد هو الحر الوحيد في نظامه، على نحو يصادق على حكم هيغل السلبي عن الشرق. اليوم هناك عائلة حرة. قبل أيام قليلة فقط استفتي السوريون على دستور يقول إن رئيس الجمهورية “غير مسؤول” عما يفعل، عدا حالة الخيانة العظمى التي يحتاط الدستور نفسه لجعل اتهامه بها مستحيلاً. هذا الحرص الوسواسي على تحصين يد العاهل وإطلاقها، يتعارض مع فكرة الدستور نفسه كنظام من الضوابط المانعة لتوسع السلطة، والحامية لحريات الأفراد وحقوقهم. هذا ليس حتى مبدأ “فوق دستوري”، بل هو معنى الدستور ومبرره. ما وجه لزوم الدستور إن كان الحاكم مطلق اليد، ليس مسؤولاً عما يفعل؟
يتميز هذا النظام الملوكي أيضا بخلوّه الجوهري من العدل والحس الإنساني، ويمتلئ في المقابل بالكراهية والعنف. وعلى رأس الحكم في البلد أشخاص يجمعون بين القوة والغربة الكلية عن أي قيم، وطنية أو إنسانية أو دينية. إن كان من “فضيلة” للحكم الأسدي منذ بدايته فهي الخسة، التعامل بقسوة وتشفٍٍّ مع المحكومين، كأن للحاكم ثأرا عليهم، واللاتسامح واللاعفو الجوهريين أيضاً. لا يعرف السوري المنفتح القلب مثالاً واحداً على سماحة نفس حكّامه، ولم يمر يوم واحد خلال أربعين عاما شعر فيه بعطفهم عليه أو بوحدة حاله معهم، أو بغيرتهم المخلصة على مصالحه وكرامته. تختزن ذاكرة كل سوري في المقابل عشرات الأمثلة على الرقابة والتنغيص والإذلال، جعلته صغيراً في وطنه وخارجه، مستبطناً فقدان الكرامة، وله نفسية العبد (هل ما يعرضه “معارضون” من استعداد لا يكل لنهش معارضين غير مؤشر إلى نفسية العبيد؟).
هذا كله منبع شؤم ونذير بخراب عميم، يبدو أن سوريا بقيادة بشار الأسد تسير نحوه بعينين مفتوحتين. “اللعنة” سمة لعالم تتمايز فيه مراتب الناس جوهرياً. وفي هذه العالم ثمة أيضا “الفتنة” و”الأبد”. و”السلطان”. و”القدر”. عالم الجواهر أو الماهيات الثابتة.
الأصل في هذا كله هو واحد من أثبت ثوابت الحكم الأسدي: رفض الأخذ والعطاء مع السوريين وإنكار أهليتهم السياسية. إنهم “رعايا”، عبيد سياسياً. وهذا معنى قديم وسلطاني للسياسة، كان مفضياً للخراب في القديم، وهو أكثر إفضاء إليه اليوم، على ما رأينا من مثالَي العراق وليبيا القريبين. يستهلك الحكم السلطاني الزمن ولا ينتجه، لذلك عمره (الأبد) لا يطول كثيراً، وينتهي بالخراب، وليس بالتحول أو التطور أو الطفرة. من غير المحتمل أن يتغير بالسياسة والعقل نظام لا يشرك محكوميه في السياسة والعقل. الأرجح أن يتغير بالقوة، وعبر خراب وطني واسع.
2
بعد عام من الثورة، قد يمكن القول اليوم إن سوريا اليوم في حالة التهاب سياسي شديد. قادت القسوة والكراهية والعدوان وانعدام العقل والعدل إلى تشدد متصاعد في المجتمع، وإلى مناخات من التصلب النفسي والقطيعة والعداوة. ميزان العدالة المختل طوال عقود، يفسح المجال اليوم لروحية القصاص أو الانتقام. القدرة على عقلنة الانفعالات العامة وضبطها، محدودة اليوم، ما دام نظام الاحتلال مستمراً في عدوانه. لكن أيضاً، لأن ما تعرّض له المجتمع السوري من تجفيف سياسي وأخلاقي مديد حرمه من قيادات سياسية وأخلاقية موثوق بها، كان يمكنها أن تكون كلمتها مسموعة في ضبط النفوس والانفعالات.
ليس من المحتمل أصلاً أن تظهر أدوار ضابطة ومعقلنة إن لم ينته هذا العدوان المستمر. ينبغي سحب السكّين من الجرح أولاً، من أجل معالجة الجريح، وتهدئة نفوس ذويه. من تجربتنا اليومية طوال عام من الثورة، نعلم من نفوسنا وممن حولنا أن كل مذبحة جديدة تطيح أصواتنا الأهدأ والأكثر ودية من نوازعنا، وتقلل من فرص أن يستمع إليها أو يتقبّلها أيٌّ كان.
ليس هناك فرصة للتعافي السوري من دون التخلص من الحكم الخسيس. أقرب أحسن. ستواجه سوريا مشكلات إعادة بناء مادية وسياسية ومعنوية بالغة المشقة، لكنها ستكون تخلصت من عامل تسميم دائم لكيانها الوطني. مشكلات إعادة البناء قائمة في كل حال، وستزداد تعقيداً وعسراً كلما طال أمد بقاء النظام.
هل التسوية ممكنة؟ بعد سنة لم يفتح لها النظام وحلفاؤه باباً. تكوينه الخسيس لا يقبلها إلا حين تكون خياراته الأخرى أسوأ. ثم أنه ليس هناك مبدأ أخلاقي يسبغ عدالة متسقة على القبول بتسوية مع نظام يقتل محكومه ويقتل البلد الذي يحكمه.
هل هناك عدالة عليا يمكنها أن تسوّغ تسوية غير عادلة مع النظام؟ مثلاً سلامة كيان سوريا مقابل حصانة بشار الأسد وعائلته، وخروجهم من الحكم والبلد، على ما اقترح الرئيس التونسي قبل حين؟ لا يبدو أن النظام مستعد لذلك أو سيكون مستعداً في أي وقت. هناك عنصر انتحاري في تكوينه وسلوكه، سبقت رؤية مثله عند صدام حسين ومعمر القذافي. لعله يقوّي قلبه على ذلك كل من إيران و”حزب الله” اللذين تخرج علاقتهما مع النظام منذ بداية الثورة من إطار مفهوم التحالف إلى ارتباط عضوي يجعلهما مكوّنين بنيويين للنظام، مادياً وأمنياً وعسكرياً، وسياسياً طبعاً. حتى لو وجد تحكيم عدالة عليا تصون تكامل البلد مقابل حصانة القتلة آذانا صاغية في أوساط الثورة السورية، فإن من غير المحتمل أن تقبل من النظام السوري الإيراني الحزب الهي.
3
ما ستكون حال سورية بعد عام من اليوم؟
لا يَصدُق تنبؤ بالمستقبل، لكن قد يكون من شأن تقدير الاحتمالات أن يساعدنا على التوجه في الراهن.
الأسوأ هو تمادي الأزمة. النظام هو الطرف الأقوى كحاله اليوم، ويثابر على حملاته التأديبية هنا وهناك، لكن من دون أن يكون قادراً على استعادة السيطرة. هناك أوضاع اقتصادية صعبة جداً، وانهيار في الخدمات العامة، وانتشار الفقر والجوع، وعنف يومي يدفع ثمنه الأضعف والأقل حصانة من السوريين، على نحو ما هي الحال اليوم.
يتوافق هذا الاحتمال مع تحول سوريا إلى ساحة، حيث ينال النظام دعماً حاسماً من أحبابه، وتنال المعارضة دعماً غير حاسم من دول عربية وأجنبية.
احتمال ثانٍ يتمثل في تسوية قريبة أو “حل يمني”: يخرج بشار الأسد، وربما بعض الرؤوس الأمنية، لكن يبقى النظام. تحصل المعارضة على تمثيل في الحكم، لكنه غير مؤثر فعلياً. نحصل على بلد ضعيف وجريح، تبقى المخابرات فاعلة فيه، وللعديد من القوى الإقليمية والدولية أصابع في حياته السياسية. سيكون الحل اليمني باب تدشين لحقبة جديدة من “الصراع على سوريا”.
احتمال آخر أن يجري التخلص من النظام بمزيج من الفعل الداخلي، المدني والعسكري، ومن التدخل الدولي المؤثر الذي قد يكون عبر تسليح “الجيش الحر”. لكن ستكون هذه معركة إقليمية معقدة، تتجاوز سوريا ليمتزج فيها الإقليمي بالطائفي بالدولي: ضرب من حرب عالمية مصغرة.
إن تم التخلص من النظام وفقاً لهذا الاحتمال، فسنكون في مواجهة أوضاع سياسية مضطربة أيضاً، تتقابل فيها قوى علمانية وإسلامية، ومقاتلون وسياسيون، فضلاً عن تأثير قوى إقليمية ودولية متنوعة، وطبعاً مشكلات إعادة البناء الوطني المعقدة.
نستبعد احتمالين: استعادة النظام للسيطرة العامة وفرض “السلام الأسدي” على سوريا، أي تجديد شباب الحكم الملوكي الاستعبادي، وتحول النظام صراحة إلى حكم للشبّيحة؛ نستبعد أيضاً للأسف التخلص الذاتي والنظيف من النظام، العائلة والمخابرات والمال (والروابط الإقليمية العصبية التي أصبحت مكوّناً عضوياً للنظام)، والبدء من أوضاع صعبة بعملية إعادة بناء وطني، تسير بسلاسة، لكنها شاقة من كل بد. بعد كل هذا الدم والغضب والتحطيم الدؤوب لأسس الحياة الوطنية، المادية والسياسية والأخلاقية، لم تبق فرصة لهذا الاحتمال.
4
لقد أمسك التاريخ بتلابيبنا، لا يتركنا ولو تركناه، وهو يسوقنا بكلفة باهظة عبر منعرجات لا نتحكم بها، ولا نكاد نؤثر فيها. النفوس تتمزق مثل المجتمع، ومثل البلد. كل الشياطين القديمة تصحو مزودةً أسلحة جديدة. بين ما هو مطروح علينا من خيارات، ليس ثمة ما لا يطرح معضلات سياسية وأخلاقية، وليس هناك مخارج آمنة من محنتنا الوطنية والإنسانية المديدة. نعرف المخرج الأكرم: لا بد من الخلاص من الخسيس العام. لكن الطريق إلى الخلاص وعرة، وهي تورط العالم كله في صراعنا. يا له من تشريف ليتنا أعفينا منه!
قبل نحو قرنين ونصف قرن هتف فولتير: فلنسحق الخسيس! كان يعني الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، وكانت منبعاً للتعصب والفساد في حينه. منبع الخسة في بلدنا هو نظام ملوكي استعبادي، لن يستقيم لنا أمر من دون التخلص منه، وسيسحقنا جميعا إن لم ينسحق. فلنسحق الخسيس!