فنان سورى احترف الاحتجاج يوسف عبدلكى. لوحات تبشر بالثورة وتتحدى الموت
سيد محمود حسن
قبل أكثر من عشر سنوات أقام الفنان التشكيلى السورى يوسف عبدلكى معرضا فى صالة مشربية بالقاهرة، كانت لوحاته تنطق بالاحتجاج السياسى على الرغم من رموزها الهادئة، ومفرداته لم تكن غير أسماك ميتة ومقطوعة الرأس “أحذية ممزقة”.
فى تلك الأيام البعيدة كان عبدلكى مقيما فى باريس فى سنوات لا يفضل أن يسميها “سنوات المنفى”، وإنما يفضل الآن تعبير “محطة الانتظار”. فقد انتظم فى صفوف المثقفين المعارضين لبعض السياسات التى انتهجها النظام.
قبل نحو ثلاثة أعوام عاد عبدلكى لبلاده آملا فى فرص تحسن نسبى جاءت ظروف الثورة السورية لتجهز عليها فلم يعد أمام السوريين من طريق سوى التغيير.
قبل ذلك وزع عبدلكى وقته بين العمل كرسام كاريكاتير وبين همومه السياسية وانشغالاته بمستقبل بلاده إلى جانب إصراره على أن يكون فنان “جرافيك” متميزاً.
كان الفن والتحصيل الدراسى سببين مباشرين لخروجه من دمشق بعد أن حصل على شهادة من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1976 وعلى دبلوم جرافيك من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة فى باريس عام 1986، ثم الدكتوراه من جامعة باريس الثامنة عام 1989.
وخلال سنوات “الانتظار” أقام أول معارضه الفردية عام 1973 فى دمشق، كما أقام العديد من المعارض فى تونس والقاهرة والأردن وبيروت والشارقة ودبي، ويقتنى المتحف البريطانى (The British Museum) فى لندن أربعة أعمال له (عملين من عام 1993 وعملين من عام 2004) ومتحف معهد العالم العربى (Institut Monde Arabe) فى باريس عملين (1990 و1995) ومتحف دينه لى باين (Digne – Les – Bains Museum) بفرنسا عملين من عام 1986، كما يقتنى متحف الكويت الوطنى أربعة من أعماله (2004) فى حين يقتنى متحف عمان للفن الحديث عملاً من أعماله الفنية (من عام 2003).
بدأ عبدلكى عمله فى الكاريكاتير منذ سنة 1966م، وكان ذلك بتشجيع من والده الذى أحب العمل السياسى كذلك رسم للأطفال.
عبدلكى يبدو اليوم رمزا من رموز الثقافة السورية المعاصرة، عندما عاد إلى بلاده بعد سنوات “انتظار طويلة” تزيد على 24 عاما كان يأمل فى ظرف أفضل لكن الأمل الآن فى تغيير كامل.
فى آخر لقاء معه حدثنى عن ألم العودة قائلا: “كشفت العودة لى عن تغييرات عميقة فى بينية المجتمع السورى لها علاقة بالمدينة وهى تغييرات لم تصب قلب المدينة التاريخى فى دمشق، ولكن امتدت إلى الضواحى على أطرافها وهى الآن محاصرة بالعشوائيات التى خلقت مدنا أخرى أكبر من المدينة الأصلية”.
قلت له وكيف يؤثر ذلك على نظرة الفنان؟ فقال: “لا أود الحديث عن تشوهات عمرانية وجمالية أصابت المدينة لكن يكفى القول: إن هذا الأمر أوجد علاقات غير مدنية بسبب “الترييف” الذى لا يمثل فقط خطرا على الفن ولكن على سلوكيات الناس، فالعلاقات الريفية تخلق “وعيا محافظا” وتربى فى السكان هواجس لا تزيد على مشاغل كسب العيش، وبالتالى كانوا لا يفكرون فى تحسين المجتمع والمستقبل أو الحريات السياسية وكل هذه الأمور التى كانت مشاغل أساسية لدى جيلنا والجيل السابق لنا ثم جاءت الأحداث الأخيرة لتغيير نظرتنا لكل شيء حولنا، حتى لهؤلاء الناس الذين كنا نظن أننا أكثر وعيا منهم”.
يوسف ضرب لى مثلا بالبيوت التى ملأت جبل قاسيون فوق دمشق متوقفا أمام بشارات الأمل التى قضت على الإحساس بالخيبة الذى كان يلازم الجميع. فى مراجعته لحياته يرى عبدلكى أن باريس كانت محطة غنية بحكم مناخها الفنى وعماراتها وغنى متاحفها فهى “فاترينة العالم” التى تعرض كل الفنون والثقافات، كما أنها بوتقة لصهر الهويات “وهناك أقام عدة معارض فردية وجماعية فى صالة كلود لومان عام 2002 وبريبال فى سان بول وتريناللى شماليير الدولى للحفر عام 2003 وشارك فى صالون الفنانين الفرنسيين عام 1987 وصالون الخريف بباريس العام 2007.
فى كالتوج أخير ضم أعمال الفنان وقفت أمام دراسة مرفقة أعدها الناقد إميل منعم وفيها يقول “اختار عبدلكى أن يكون فنان جرافيك لأنه أراد أن يكون عاملا، مصارعا للمادة، مقاوما للصلابة، حيز العمل عنده فضاء للخيال ومكاناً لممارسة الفعل الجسدى وتفريغ شحنته الحيوية الغاضبة”.
قبل إقامته الطويلة فى فرنسا كانت لوحات عبدلكى مليئة بالزخم السياسى الأقرب للاحتجاج، وفى الأعوام الأخيرة من إقامته الباريسية بدأ العمل على الطبيعة الصامتة لتبيان العلاقة بين العنصر والفراغ، تعبيرا عن غربة حقيقية كان يعانيها.
يرى عبدلكى أن فترة إقامته الباريسية كانت نوعا من الإكراه، لأنه ظل دائما يشتاق للعودة لولا الظروف السياسية التى حالت دون ذلك، ويشير إلى أن الغربة تجلت عنده فى موضوعات حيادية من خلال رسم رموز مجردة مثل أسماك فى طبق على مائدة أو زهور فى أوان، ولكن بأقلام التحبير لحبر وتقنية الجرافيك ومنها على سبيل المثال لوحاته إصيص زهر – زهر عصفور الجنة التى جاءت بعيدة تماما عن المفرادات السياسية المألوفة فالهم الذى سيطر على هذه الأعمال لم يكن خافيا، وإنما كان واضحا فى الإضاءة الخافتة التى كانت تتسرب للوحة، وهذه العناصر كما يقول لا تزال قائمة فى اللوحات التى أنجزها خلال إقامته فى بلاده التى تشهد “ثورة حقيقية” وحراكا سياسيا يواجه بالرصاص.
فى سوريا الآن جرى إيقاظ الأحلام والمشروعات قديمة، حيث حلم عبدلكى بالعمل فى الريف للتعرف من جديد على الناس ومشاغلهم اليومية خارج حصار المدينة “التحول باتجاه الطبيعة الصامتة لا يراه عبدلكى نوعا من الخلاص من الموضوع السياسى المباشر الذى ميز لوحاته الكاريكاتورية التى كان يرسمها والذى كان يمتد أحيانا إلى لوحات الحفر التى كان ينجزها، فهو يقول: “فى أعمالى الأخيرة تكررت موتيفات عن أسماك ميتة ذات رءوس مقطوعة وأحذية فارغة وكلها رموز ذات دلالات واضحة، لأننى أحب أن يكون العنصر ذاته يحمل الدلالات الخاصة به، فقد يحدث مثلا أن ترسم عصفورا ميتا للاحتجاج على فكرة القتل وعناصر لوحاتى لم تعد حيادية، وإنما تشتبك مع هواجسى وتصوراتى السياسية ذاتها وهى طريقة أكثر هدوء وعمقا من أن ترسم بندقية.
عندما أساله عن موقع السياسة وهو الذى انتمى لفصائل اليسار السورى وناضل من قلبه بداية من سبعينيات القرن الماضى فى أعماله يقول “السياسة لم تستهلكنى أبدا، لدى قناعة أن كل مواطن لابد أن يكون معنيا بالسياسة، فالسلطات العربية صادرت السياسة وأبعدت الناس عن الاهتمام بشئون حياتها، وعلى مستوى التناول الجمالى فلوحاتى صنعت معادلتها الصعبة وأبعدت الدلالات الفجة عنها، لتعبر عن هموم ومسائل وجودية كبرى، وحاولت دائما عمل شغل يبتعد عن المباشرة ولكن بصياغات تعكس مفاهيم جمالية راقية أكثر من تورطها فى التحريض المباشر”. يرى عبدلكى أيضا أن عمله فى رسم الكاريكاتير انقذه “الكاريكاتير أعطانى فرصة لتفريغ طاقة الاحتجاج” وبقى فنى خالصا بعيدا عن هذا الهم المباشر على الرغم من اعتقادى أن المباشرة فى الفن ليست عيبا فى حد ذاتها، فلوحة “الإعدام للإسبانى جويا أو الجورنيكا لبيكاسو أعمال سياسية لكنها لامست داخل الناس شيئا أساسيا، وبالتالى ارتقى أداؤها، ومشكلة الفن السياسى دائما فى الأداء وهل هو راق وعميق أم عابر ومباشر”.
من المدهش حقا أن عبدلكى توقف تماما عن رسم الكاريكاتير على الرغم من تميزه الواضح فى هذا المجال والأكثر غرابة أن هذا التوقف جاء رغما عنه لكنه لبى طموحا قديما بداخله لأن الصحافة “تأكل الوقت المتاح للفن” كما يقول وهنا سألته عن دلالة اتجاه غالبية رسامى الكاريكاتير العرب لرسم كتب الأطفال والتوقف عن الكاريكاتير “فضحك وهو يقول” ربما كان الأمر يتعلق باليأس، لكن فى حالة رسام مصرى كبير مثل أحمد حجازى أتصور أن الأمر هو نوع من الاحتجاج أيضا، لكن لكل رسام حكايته مع المنبر الذى يعمل معه، فيوماً بعد يوم تتقلص مساحة الحرية المتاحة أمام رسام الكاريكاتير العربي، ففى الخمسينيات وفى ظل نظام ديكتاتورى قامع كان هامش الحرية أكبر، ربما نحلم الآن بما كان متاحا أيام الاحتلال ولا شك أن تقلص مساحة الحرية يضع رسام الكاريكاتير فى وضع أصعب من وضع الكاتب والصحفى، لأن هامش المناورة فى اللوحة محدود، لأن فكرة الكاريكاتير تقوم على المفارقة التى لا تحتمل المناورات على عكس النص المكتوب”.
الأهرام العربى