صفحات الثقافة

فنون الجولان ضد احتلالين


روجيه عوطة

مع بداية الثورة السورية، أعلن أهل الجولان المحتل انضمامهم إليها ودعمهم المنتفضين في الداخل السوري. خرجوا في تظاهرات يومية وأسبوعية، وأطلقوا “تنسيقية الجولان المحتل لدعم الثورة السورية”، ونظّموا العديد من النشاطات والإحتجاجات عبّروا فيها عن وقوفهم ضد نظام البعث وفاشيّته الممتدة من حمص إلى الجولان المحتل. إلاّ أن فعلهم الخلاّق، تجلّى، أكثر ما تجلّى، في الفن والأدب اللذين صنعوهما ضد الاحتلالين، الإسرائيلي و… السوري.

حرص الفنّانون والكتّاب والشعراء في الجولان المحتل على أن يكونوا من أوائل الداعمين للثورة السورية، من خلال النشاطات الثقافية التي نظّموها وناقشوا فيها مستقبل الثورة وآفاقها، من دون أن ينسوا قضيتهم التحررية في الداخل الجولاني، التي هي جزء أساسي من معركة إسقاط نظام الأسد. منذ اللحظة الأولى، قرروا وضع كل قدراتهم الإبداعية في خدمة الشعب المنتفض: رسموا وغنّوا وصوّروا وكتبوا من أجل ينال كل السوريين الحرية، أينما كانوا. كما بحثوا في مستقبل الجولان وسُبل تحريره من الإحتلال الإسرائيلي بعد سقوط الأسد وتحرر الجولانيين من استبداده، لا سيما أن الواقع يشير إلى تنسيق ما يحصل بين الشبّيحة والإحتلال، عدا أن السياسة الإسرائيلية تريد من الأسد البقاء في حكمه كي تضمن حدودها من المقاومات الجديدة التي قد تنشأ وتفكّ القيد الإحتلالي عن المناطق السورية المحتلة، وذلك بحرية لم تحظ بها أيام الأسد الأب أو الإبن. يعلم الجولانيون أن الإحتلال يشارك في قمعهم بشكل من الأشكال، وفي تغطية جرائم النظام ومجازره المتواصلة. فإسرائيل رفضت التصويت على قرارات الأمم المتحدة التي تدين بشار الأسد وانتهاكه حقوق الإنسان، وعارضت قرارات إدانته في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في المدن السورية، بينما كانت هي ترتكب، بالتوازي مع الجرائم الأسدية، فظائع في حق العائلات الفلسطينية البريئة والمحاصرة في غزة، وتدعم إعتداءات الشبّيحة في الجولان المحتل، مشجعةً إياهم على قمع المعارضين وكمّ أفواههم كي يواصل الأسد سحقه الإنتفاضة وتشديد حصاره العسكري على المدن وأحيائها التي بات بعضها ركاماً.

الخلق الفني، كما يفهمه الفنانون الجولانيون، هو تحويل الحطام التاريخي إلى جسر متين يسير عليه السوريون نحو بلد لا قتل فيه ولا استبداد. الفن في هذه اللحظة التاريخية، من الضروري أن يُمارَس انطلاقاً من المشهد الدموي، وابتداءً من الصورة الركامية لسوريا الأسدية. يقف الفن الجولاني ضد احتلالين، ومعركته ضد الإحتلال الصهيوني كان قد بدأت منذ زمن، ولم يتعب فنّانوها في غمرة معاركهم الجديدة ضد فاشية نظام الأسد. الفن الثوري يفضح هذا التنسيق القمعي، ويعرّي أصحابه من أقنعة دأبوا على التنكر بها من أجل إخفاء طغيانهم الدموي وإبعاد شبهات الدم عنهم. ينزع الفنانون الجولانيون القناع المقاوم عن وجه الديكتاتور ويُظهرون بشاعته ورياءه منذ البيان رقم 66 الذي وقّعه حافظ الأسد عام 1967 وسلّم بفعله مدينة القنيطرة إلى إسرائيل قبل أن يصل جنودها إليها بساعات عدة. سلّم الأسد الجولان إلى إسرائيل. الفن السوري، الجولاني خصوصاً، يستعيد منهما منطقة الجولان ومعها سوريا كلها. فما سلّمه الأسد للإحتلال يستعيده الفن من الإثنين.

لا حدود بين الفن الجولاني والفن السوري الداخلي. نسّق أهل الجولان المحتل مع الداخل. أفادوا من الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي كي يتمكنوا من مواكبة الأحداث في سوريا، والتحرك على أساسها. كأن التنسيق الذي يجري بينهم ينقض التنسيق بين الإحتلالين. فالتنسيق الفني، مثلما يحصل طوال أيام الأسبوع التظاهري، يحصل في مجالات فنية عدة: في تصميم اللوحات وكتابة الشعارات وتنظيم الإحتفالات الداعمة. وقد جرى حديثاً في “مركز فاتح المدرس”، افتتاح معرض “قربنا يا حرية”، يضم لوحات كاريكاتورية للفنان علي فرزات، عنوانه مستوحى من أغنية الفنان سميح شقير وتحمل الإسم نفسه، وتضاف إلى أغاني الفنان السابقة التي أنشدت الجولان المحتل، واليوم ترافق الثورة السورية في أحزانها وتضحياتها وفي أفراحها واستمراريتها أيضاً. في عبوره الجدران والأشرطة العنصرية والعنفية، يخلق الفن الجولاني سياسةً تحررية جديدة، بادر فنّانوها إلى تعليق علم الثورة على جبل الشيخ. السياسة الأسدية التي فرضت على السوريين التضحية من أجلها على مر عقود من الزمن، لم تسمح للسوريين بتعليق علم على هضبة من هضاب الجولان، أو تعليق إشارة ما تدل على اللاحدود بين الجهات السورية المحتلة.

حلم الرجوع وطموح التحرر

يجمع الفن الجولاني بين حلم الرجوع الجغرافي إلى المجتمع السوري وطموح التحرر من النظام الأسدي. في هذا الجمع الفني، يقصد الجولانيون تحويل الحلم إلى مسعى جدي وعملي، والطموح إلى واقع متحقق. ما يميّز هذا الفن أنه يؤسس لمرحلة خلاّقة جديدة، لا توّظف الأدوات فيها لتمتين الموضوع، أكان عودة أم انتفاضة. كما أن الفنانين لا يثقلون كاهل عملهم الفني بقضيتهم. الفن الجديد الذي تخلقه الثورة، يتصف بذات تظهر فنّها في فضاء غير مقيّد بموضوع إيديولوجي جامد. لا جمود في هذا الفضاء الفني، والقطيعة تحصل تلقائياً بين ذات الفنان ومسعاه الإيديولوجي. تقطع الأعمال الفنية مع مناسبة خلقها لتأريخ مرحلة أو حقبة ثورية ما، وربما هي الطريق لدخول السوريين إلى تاريخهم الجديد. يواصل الجولانيون صرخاتهم التي تخرج حادة وقوية، كما في لوحة للفنانة رندا مداح، حيث تتداخل الخطوط وتتلوى التجاعيد بين العيون والأنف والفم الصارخ. فالصرخة تكوي المعالم الجلدية جميعها، مثلما تكوي المعاناة الحدود بين أهل الجولان المحتل والمنتفضين في الداخل السوري، الذين يصرخون بحلمهم المركّب من عنصرين، لا حد زمنياً أو جغرافياً بينهما: التحرر والرجوع معاً.

يُفَرّغ الدفاع الجولاني عن الثورة السورية خطاب النظام المتعلق بالمقاومة والممانعة، والمشاركة في دعم الشعب السوري يجوّفه طالما أن الجولانيين متمسكون بحرية بلادهم، فلا يمكن “المستعبد أن يمتلك إرادة التحرير، تالياً نحن نتطلع إلى دولة تؤمن بالحرية أولاً كي تكون قادرة على الوصول إلى التحرير”، بحسب الشاعر والأسير المحرر ياسر خنجر، الذي أمضى أكثر من سبعة أعوام معتقلاً في السجون الإسرائيلية. ليس على هذا النظام السياسي الجديد أن يحمل مسألة التحرير كشعار إيديولوجي، بينما الخاضعون له مقموعون ومعتقلون، وليس عليه أن يحملها كقضية أولية لا تترك مجالاً لتحقيق القضايا الملحة الأخرى، فـ”مشروع استرجاع الجولان ليس مناقضاً لغاية الثورة الرئيسية وهي حرية المواطن السوري وكرامته”. المواطن الحر وحده قادر على تحرير الجولان، على قول خنجر، الطامح إلى سوريا جديدة، “لا يركض فيها الأطفال من خوف ولكن ليلاحقوا طائراتهم الورقية”.

“نص تفاحة”

و”أنتم الصوت ونحن صداه”

لهؤلاء الأطفال الراكضين خلف أحلامهم، تغنّي فرقة “نص تفاحة”، التي تواكب الثورة وتتعامل في أغانيها مع اللغة السورية الجديدة التي يخلقها الشارع في انتفاضته. تفاعلت هذه الفرقة مع الشباب السوري الرافض لسلطة نظام الأسد، وعملت معهم مشددةً على سلميّة الثورة واللجوء أكثر إلى الإضرابات والعصيان المدني. تتناول “نص تفاحة” شخصية القائد، وتعرّيها من هيبتها وهيمنتها، و”تدحرجها على التراب ليس انتقاماً إنما لضرورة تعريتها واسقاط رمزيتها الفارغة بعدما قام بهذا شباب الثورة”، على قول عضو الفرقة الغنائية الفنان مضاء المغربي، الذي يريد للفرقة أن تغنّي كما يصرخ الشعب السوري، وأن تغنّي الأمل بالتحرير والتحرر، لأنه متأكد أن النظام لن ينجزهما. في الشتاء الماضي، كانت فرقة “نص تفاحة” قد غنّت للمازوت المستعمل وقوداً للدبابات في حين كان الأطفال السوريون يموتون من البرد والصقيع.

شارك العديد من الناشطين والمثقفين والكتّاب والفنانين في إصدار بيان “أنتم الصوت ونحن صداه” الذي أعلن فيه الجولانيون تأييدهم الثورة السورية. من ذلك البيان حتى اليوم، يؤكد الفنان التشكيلي وائل طربيه، أن الفنانين يعملون بكد وصمت منذ بداية الثورة في تصميم الملصقات الفنية، وهم استخدموا الغرافيك والرسم والتصوير والنحت والأعمال الإنشائية والفيديو للتعبير عن رؤيتهم الثورية، فضلاً عن المساهمات الشعرية والنثرية والموسيقية، والعمل في صفحات الثورة السورية الإلكترونية. كما نظّم الفنانون أسبوع “ليتك معنا يا عمر… ما أبهى الطوفان”، احتفاءً بالسينمائي الراحل عمر أميرالاي، لحقه حوار مطوّل عبر السكايب مع المخرج أسامة محمد. إلى هذه النشاطات، لقاءات عُقدت تحت عنوان “حوارات حول الثورة السورية”، تنتقل من مؤسسة ثقافية إلى أخرى في الجولان المحتل. يرى طربيه أن الصوت الفني والثقافي في الجولان خرق احتكار تمثيل موالي النظام للجولانيين عبر سنين طويلة. فللمرة الأولى، وبفضل بطولات السوريين، خرج الى العلن صوت آخر يعارض نظام الأسد صراحةً وبوضوح تام.

يتجه الفنانون بأنظارهم إلى سوريا، يعيشون الثورة بترقب تفاصيل الحراك الشعبي يومياً، ويترجمون حالتهم الثورية بالفن والشعر. تلتحق هذه الطرق التعبيرية بالشارع، بحسب الفنانة التشكيلية نهاد الحلبي، التي تعتبر أن الفنان الحقيقي هو من يتضامن قولاً وعملاً مع كل ضحية من الضحايا بغض النظر عن الهوية الدينية أو الطائفية، فمن واجب الفنان أن يتمتع بضمير أخلاقي حيال ما يشاهد من انتهاك للإنسانية على الشاشة أو أمامه على إثر إعتداءات الشبّيحة في الجولان، التي اتخذت أشكالاً عدة، كالتحريض الإجتماعي والتخوين، والمجابهات والإزعاج الشخصي، إضافةً إلى خلق حال من التوتر والإنقسام في المجتمع. ففي مناسبة مرور عام على انطلاق الثورة، قرر الناشطون تنظيم اعتصام احتفالي، لكن التهديد التشبيحي دفعهم إلى تأجيله منعاً للإحتكاك بين المعارضين والموالين، ولقطع الطريق على العنف. بالنسبة الى الحلبي، تتشابه عصابات التشبيح مع عصابات “الهاغاناه والأرغون” و”إسرائيل بيتنا” وحركة “كاخ” العنصرية، التي نفذت جرائم كثيرة في حق الشعب الأعزل، وينبع هذا التشابه من إيديولوجيا الإقصاء العنصري والإنتقائي. تذكر الحلبي أن المدافعين عن النظام تربطهم به أهدافهم النفعية ومصالحهم الإقتصادية المباشرة. كما أن المجتمع الجولاني لا يختلف كثيراً عن التصنيفات الحاصلة في المجتمع السوري بين الموالي والمعارض والوسطي الصامت. تُضاف إلى هذا التصنيف صورة معممة عن النظام، بأنه أساس المقاومة، وهي تنتشر بين الناس فلا يستطيعون بفعلها فصل الزعيم أو القائد عن مستقبل البلد. تلخص الحلبي سوريا الجديدة في نقاط أساسية، هي بناء دولة مستقلة ذات سيادة على كامل أراضيها من الجنوب، الجولان، إلى الشمال، الإسكندرون، وأن تتمتع هذه الدولة بحياة برلمانية ديموقراطية، وانتخابات نزيهة تلبّي مطالب الناس بعيداً من الهويات القومية والدينية وغيرها. في سوريا الجديدة، لا دور للزعيم الواحد والقائد الأبدي. فيها، يُفصل الدين عن الدولة فعلياً، وينهض الإقتصاد، وتُحترم حرية التعبير عن الرأي والمعتقد والصحافة.

فنّانو الحرية وشعراء الشجاعة

لا يتوانى الفنانون عن ممارسة دورهم الإنساني، ويجهدون في الوقوف إلى جانب إخوتهم في الداخل السوري، بكل الطرق المتاحة لهم، لا سيما بالفن والشعر وغيرهما. السوريون فنّانو الحرية، وشعراء الشجاعة، والتضحيات المبذولة من أجل التحررمن الطاغية تثبت استمرارهم بالثورة حتى إسقاط النظام. الطريق  صعبة وطويلة، لكن الفنانين قادرون على اختصارها بلوحة وصورة وقصيدة، قادرون على مواجهة كل مستبد وكل ديكتاتور في المستقبل. يتحدى الفن الجولاني الجغرافيا والإيديولوجيا، يقطع الحدود، وتصل أعمال فنانيه إلى شاشة كل مواطن في الداخل السوري. هذه الأعمال بمثابة تحية يرسلها أخوة وأصدقاء من منطقة محتلة تحاصرها الشرائط والجدران، تعزلها عن الحرية المولودة في بلدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى