فن الاقتباسات الصحافية
الملاذ الأخير للمصداقية والشفافية في كواليس الإعلام
واشنطن: ديفيد كار*
الآن وبعد أن أصبح واضحا أن العديد من الصحافيين الذين يقومون بتغطية القضايا السياسية والحكومية قد وافقوا على الحصول على موافقة مسبقة من قبل المسؤولين قبل نشر أي اقتباسات لهم في وسائل الإعلام، فإنه من الصعوبة بمكان عدم رؤية الديمقراطية على أنها مجرد مسرحية هزلية يتم إخراجها بعناية فائقة لكي تسلط الضوء على المشاركين فيها وهم في أفضل صورة.
وفي شهر يوليو (تموز) الماضي، أثار زميلي جيرمي بيترز الحديث مرة أخرى عن السماح لمصادر سياسية بقراءة تلك الاقتباسات والموافقة عليها بوصفه شرطا مسبقا لإجراء أي حوار شخصي. وقد حصل هذا على اهتمام كبير سواء داخل أروقة الحكومة الفيدرالية الأميركية أو خارجها، ويرجع السبب في ذلك بصورة جزئية إلى أن الاقتباس يعد الملاذ الأخير للمصداقية والشفافية في هذا العصر. وعندما يتم السماح بحذف تلك الاقتباسات من جانب واحد، تكون المسرحية قد اكتملت بكل أركانها.
وخلال الأسبوع الماضي، أدت هذه القواعد إلى فتح تحقيق جديد، بعدما اعترف مايكل لويس، الذي سيكتب لمحة مختصرة عن الرئيس أوباما في مجلة «فانيتي فير»، بأنه كان يتعين عليه الحصول على موافقة على الاقتباسات التي استخدمها طوال ثمانية أشهر من البحث الموسع.
وربما يكون الشيء الجيد بالنسبة لمن يقوم بتغطية الأحداث التجارية هو أنه لا يتعين عليه التعامل مع تلك السياسات الصحافية الغريبة، على الرغم من أننا قد نقوم بذلك أيضا. وخلال استطلاع رأي لـ20 صحافيا، كان من الواضح أنه في وول ستريت ووادي السليكون وبعض الشركات الإعلامية الكبرى التي أقوم بتغطية الأخبار بها، موضوعات التغطية تطلب، وفي بعض الأحيان تتلقي، هذا النوع من الموافقة على الاقتباسات الذي لم يكن واردا قبل 20 عاما.
وأصبح من العادي أن تطلب المؤسسات الأميركية من الصحافيين إما أن يعبروا عن وجهة النظر التي تتبناها المؤسسة وإما أن يرحلوا. والآن، يواجه مراسل صحافي يحاول إجراء مقابلة شخصية مع مصدر في إحدى المؤسسات التجارية مجموعة كبيرة من الشروط المسبقة، وفي بعض الأحيان طلبا بالموافقة على الاقتباسات الصحافية. وعلى هذا الأساس، لا تكون النتيجة خبرا، أو بيانا صحافيا، ولكن تكون مزيجا من الاثنين.
وقال فيليكس سالمون، وهو كاتب عمود متخصص في المجال التجاري في وكالة «رويترز» للأنباء: «يزداد الطلب على الموافقة على الاقتباسات كلما ازداد انخراط العاملين في العلاقات العامة في الأمر». وخلال العام الماضي، التقيت بمسؤول اتصالات في إحدى الشركات الإعلامية وطلب مني أن أنشر اقتباسات له بعد لقائه بالمدير التنفيذي للشركة. وكان هناك محللون متخصصون من الذين دائما ما يعتد برأيهم في القضايا التجارية، والذين طلبوا مني أن أقوم بإرسال جزء من هذه المقابلة الشخصية التي أود نشرها. وبعد وقت ليس بالطويل، رفض المتحدث الرسمي باسم الشركة وضع اسمه على البيان الصحافي. وفي الحقيقة، غالبا من أنسحب في حالة تعرضي لمثل هذه المواقف، ولكن لو شعرت بأنني في أشد الاحتياج لمثل هذه التصريحات، فإنني أدخل في جولة من التفاوض.
وأخبرني الصحافيون الذين تحدثت معهم بأن الشركات في وول ستريت تحاول التفاوض من أجل الاقتباسات على مدى عقد من الزمان. ويعود السبب في ذلك بصورة جزئية إلى أن اختيار كلمة بصورة سيئة قد يكلف الشركة ملايين أو مليارات الدولارات.
ما أسخف ذلك؟ فبعدما أرسلت رسائل إلكترونية إلى الصحافيين الذين يقومون بتغطية الأعمال التجارية، حصلت على العديد من الأخبار التي تكشفت خيوطها بعد ذلك. لك أن تخمن ماذا حدث! في معظم الحالات، لم يسمح أرباب العمل (وكالات الأنباء) للصحافيين بالتسجيل.
وعندما تفكر في الأمر، تجد أن كبار رجال الأعمال لديهم نفوذ أكبر من المسؤولين الحكوميين، على افتراض أن المسؤولين العموميين يجب أن يكونوا كذلك فقط، ولكن الساسة ومساعديهم يستغلون المنافسة الشرسة ويبدأون في مساومة الصحافيين المتشوقين للحصول على انفرادات صحافية. وقال بين سميث، وهو المسؤول عن موقع «BuzzFeed» إن ما رواه جيرمي بيترز جعله يدرك أبعاد القضية بشكل أكبر، وأضاف: «سوف نقاوم ذلك كلما كان ذلك ممكنا، ونكشف عنه عندما لا نستطيع مقاومته».
وهناك بعض الأمور التي تفيد في هذا الإطار، وبعضها مشروع بالطبع. وفي الغالب، لا يقوم الصحافيون بتسجيل المقابلات الشخصية ولا يقومون دائما بالطباعة أو الكتابة بالسرعة نفسها التي يسير بها الموضوع. لقد كتبت ما يكفي لكي نعرف أن ما يظهر في الاقتباسات يكون هو ما قيل بالضبط في بعض الأحيان، لأن المصادر تريد حماية أنفسها من عمليات التشويه المتعارف عليها.
ولكن هناك شيء آخر حديث وماكر يجري الآن، حيث يعتمد الصحافيون على طريقة أسهل وأسرع للحصول على تلك الاقتباسات، فيقومون بإرسال الأسئلة عن طريق البريد الإلكتروني ويحصلون على الإجابات بالطريقة نفسها. وفي الحقيقة، توفر هذه الطريقة عناء الذهاب والعودة، وإمكانية تكرار أي شيء في الحوار الصحافي. ويجب الوضع في الحسبان أنه عندما تتعرض الشخصيات العامة لأية مشكلات بسبب التصريحات التي تدلي بها، فإن السبب في ذلك لا يعود إلى خطأ في النقل، ولكن لأنهم قالوا الحقيقة.
وحتى عندما يتم نقل كل القواعد الأساسية في المقال بكل شفافية ووضوح، تبرز بعض التساؤلات، وخير مثال على ذلك ما حدث في شهر يوليو (تموز) 2011، عندما قامت مجلة «بلومبرغ بيزنس ويك» بنشر لمحة عن حياة إليزابيث وارين، التي تعمل بمكتب الحماية المالية للمستهلك، حيث قال الكاتب: «يشعر المكتب الصحافي بالقلق من السماح للصحافيين بالحديث مع الموظفين، ووافقت وارين على إجراء مقابلتين بشرط أن تسمح لها مجلة (بلومبرغ بيزنسويك) بالموافقة على الاقتباسات قبل نشرها». وفي الحقيقة، جعلني هذا التحذير أقرأ المقالة بعين مختلفة، لأن بؤرة التحكم والسيطرة قد انعكست.
وبالطبع، تعد الاقتباسات بمثابة الأثاث في المنزل الذي يكون الصحافي حرا في بنائه كما يشاء أو كما تشاء مؤسسته الصحافية، إذن كيف يمكن للمصدر أن يتحكم في ما تتم كتابته بين الاقتباسات؟
وقال ديفيد فون دريهل، وهو صحافي متخصص في تغطية القضايا السياسية بصحيفة «نيويورك تايمز»: «أكره أن نجد أنفسنا في هذا الطريق، ولكن لا لوم علينا. إن الصحافة التي تركز على (زلات) اللسان بصورة أكبر من التركيز على جوهر الموضوع الحقيقي هي التي تجعل المسؤولين يتصرفون بطريقة دفاعية».
ولحسن الحظ، هناك تراجع عن هذا، ويقود بعض الصحافيين الشباب هذا الاتجاه، حيث أعلن محررو صحيفة «ذي هارفارد كريمسون» التي تصدرها جامعة هارفارد خلال الشهر الحالي أنها لن تسمح بعد ذلك للمسؤولين بالجامعة بأن يوافقوا بصورة مسبقة على اقتباساتهم، وبعثوا برسالة إلى الطلبة يقولون فيها إن «السياسة التي كانت متبعة في الماضي لن تستمر بعد ذلك، لأنه يتم رفض الاقتباسات في بعض الأحيان بصورة صريحة أو تعاد كتابتها مرة أخرى لتعطي معنى عكس ما قاله المسؤول في الحوار المسجل».
في الحقيقة، تعد الصحافة في أنقى صورها عبارة عن معاملة بين طرفين، ولكن بعد فترة من الوقت وبعد نشر بعض الأخبار وعقد بعض الاتفاقات، تنحرف عن المسار الصحيح للمهنة الذي يتلخص في سؤال بسيط يطرحه الصحافي وإجابة بسيطة يدلي بها المسؤول، وهي المعادلة التي يجب عدم التخلي عنها أبدا. ربما يبدو الأمر واضحا، ولكن لا بد من التأكيد عليه مرة أخرى بالقول إن الذين كتبوا المسودة الأولى للتاريخ لا يتعين عليهم إعادة كتابتها مرة أخرى.
* خدمة «نيويورك تايمز»