فن الثقافة السياسية/ عواد علي
قبل نحو عقدين وقع في يدي كتاب بعنوان “المسرح والعالم: الأداء وفن السياسة الثقافية” للناقد والمخرج المسرحي الهندي رستم بهاروشا، صدر عن منشورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 1996، بترجمة أمين حسين الرباط. تعلمت من هذا الكتاب، أكثر من كتب النقاد الغربيين، كيفية تفكيك الأعمال الأدبية والفنية، ذات النزعة الاستشراقية خاصة، أو التي تخفي تحت قشرتها الخارجية رؤية مركزية غربية.
يفكك بهاروشا في كتابه أعمال أربعة مسرحيين مشهورين هم: الفرنسي أنتونين آرتو، البولوني غروتوفسكي، الإنكليزي بيتر بروك، والأميركي ريتشارد ششنر، المستندة إلى الملاحم والطقوس الشرقية عبر تركيزه على ما يسمّيه “أخلاقيات العرض” التي تكمن وراء كل تبادل ثقافي، والعلاقات الاجتماعية التي تؤسسه، منطلقا من مقولات إدوارد سعيد ومواطنيه غاياتري سبيفاك، هومي بابا، وبارتا تشاترجي، المعنية بتفكيك الخطابات الغربية الاستشراقية، القائمة على رغبة دفينة في موضعة الآخر (الشرقي) في إطار من التهميش والانتقاص، وإعادة تشكيله في المتخيّل الغربي بطريقة تستبعد هويته وتطمس حقيقته، ليجري إدراكه بوصفه عالما عجائبيا.
يؤكد بهاروشا في كتابه على أن الاتجاه السائد في إنتاج تلك الأعمال المسرحية يفصل بين التاريخ الشرقي والحضارة الشرقية عبر أساليب تخفي تحت قشرتها الخارجية نزعة مركزية غربية، واستشراقية براغماتية، بحثا عن مادة مسرحية خام، على النحو الذي عرف عن الشركات متعددة الجنسية التي تستغل المواد الخام والعمالة الرخيصة في العالم النامي، متجاهلة ما قد يتعرض له السكان المحليون من تلويث لأرضهم وحرمان الأمن والأمان. يضرب مثلا على ذلك أن نصا مقدسا مثل “شاكونتالا”، الذي يُعدّ مصدر الكثير من الغموض والحكمة الرومنطيقية واللطف الهندي، يُفرّغ من جماله الفلسفي، وسياقه الاجتماعي، بل الأسوأ من ذلك يجرّد الأداء التقليدي من صلاته بحياة الشعب الذي تُقدَّم هذه العروض من أجله.
ويقول بهاروشا عن آرتو إن المرء لا يمكنه، بغض النظر عن رفضه العنيف لثقافته، الادعاء بأن توجهه إلى الشرق كان بدافع حب الغير، أو أن هذا الحب كان قائما على فهم أصول مبادئه. من الأدق القول إنه خلق الشرق الخاص به “شرقا متخيّلا”، ثم حصل منه على مصادره لاستعادة الحيوية. آرتو لم يترجم قط المصادر بطريقته الخاصة فحسب، بل بدا غافلا تماما عن تاريخه ومغزاه الأصيل الموغل في العرقية.
وعن غروتوفسكي يقول إنه في الوقت الذي يبدو فيه مغرما باليوغا والرقص الكلاسيكي الهندي، حين يستخدمهما في مختبره المسرحي، يبدو في حقيقة الأمر، ذا نزعة براغماتية تماما، إذ يستخدم أساليب هندية كلما احتاج إليها قبل التحول إلى مواجهات أكثر مباشرة للمصادر النفسية للممثلين. يقدم بهاروشا إشارة دالة على براغماتية غروتوفسكي تتمثّل في توقفه عن توظيف اليوغا في تجاربه المسرحية، واصفا إياها بأنها حالة من “النوم الداخلي” حينما لاحظ أنه ينجم عنها تركيز داخلي له أثر ضارّ في الممثلين. وفي نقده لعرض “شاكونتالا” الذي أخرجه غروتوفسكي، يقول بهاروشا إنه كان متسما بالقليل من الشاعرية والعاطفية، متسربلا بشرقية زائفة، متذبذبا بين السحر الغامض والتقاليد، خالطا أوضاع اليوغا والحركات الرشيقة بقدر كبير من الحركات التقليدية الجامدة.
ويرى بهاروشا أن إنتاج بيتر بروك لملحمة “المهابهاراتا” الهندية الشهيرة يصم الثقافة الهندية بالتفاهة في عرضه للأساطير والملاحم، ويقلص من قيمة الفلسفة الهندوسية بطرح ملاحظات معروفة سلفا، تعتمد على بناء أوروبي مركزي للأحداث وللتمثيل صُمِّم خصيصا للجماهير العالمية. ويذهب إلى أبعد من ذلك، فيؤكد أن استيلاء بروك على مواد الملاحم متصل بتبعيته لنظام سلطة جعل الهند بارزة عالميا (وقابلة للإحياء اقتصاديا) في الأسواق الدولية. هكذا تعامل بروك مع هذه الملحمة الروحية بطريقة حولتها إلى حلل وأثاث، فجردها من تاريخها.
كاتب من العراق
العرب