فوائد ومصائب خطاب الرئيس الاسد
لعل إحدى الفوائد الكبرى لخطاب الرئيس بشار حافظ الأسد (رغم كثرة انتقاداته) هو في قدرته على عكس شخصية هذا الوريث غير المنتخب (والحق يقال) للسلطة في سورية.
فهذ الرئيس يبدو بوضوح أنه يعيش في عالم خاص يعشق نسجه بأدوات فكرية لغوية يصعب على القارئ العادي فهم مدلولاتها.. فكل شيء، حتى بديهيات الحياة، تحتاج إلى تعريف… بل إن القرار البسيط والشجاع بمعالجة الفساد (الذي يبدأ لسوء الحظ بالسيد الرئيس نفسه وبأقرب المقربين إليه) يحتاج هو أيضاً لتعريف آخر.
فالقرار – والقول له – هو قرار واحد ولا يجب أن يسمى قرارين.. وما سمعتموه من قرارات جديدة هي في الحقيقة ليست بقرارات إذ يمتنع في العقل تكرار القرار الصادر منذ ستة أعوام مرة أخرى.. وهكذا دواليك.. وكأننا مرة أخرى بالظاهرة القذافية تعيد صياغة نفسها بصورة شابة.. ممانعة ظاهرية وفساد داخلي مقيت.. وليس ذاك بصادر عن سوء طوية وخبث ما بعده خبث (وهذا للأمانة صحيح إلى درجة كبيرة)، لكنه لؤم شديد يفترض اجتماع المعرفة الكونية الكبرى بشخص رئيس نصبه الحق (بغض النظر عن المعنى الاعتقادي لكل منهما) ليكون شاهداً على الناس.
وتأتي الشواهد واحدا تلو الآخر لتؤكد هذا المعنى بكل وضوح.. فهو يصدر قراراً في الصباح لينعدم أثره في المساء.. وهو لا يتابع ذلك إذ يكتفي من القرار بجمالية هذا القرار.. بأناقته.. بأولوياته.. بمحبة الجمهور المصفق (دوماً) حوله.. وهو رغم كل مقالات الصحف والأخبار المتواترة يعجز أن يدرك أنه هو المخطئ.. والمقصّر.. والضعيف.. والفاقد لكل معاني القيادة.. وأنا هنا إنما أضع هذه الأوصاف للتوصيف فقط، يشهد الله، لا للسخرية فما هنا موضعها ولا المقام يحتملها، ثم إنه أيضاً الرجل المفضل، رغم ممانعته الظاهرية، للكيان الصيوني.. وبكل جدارة.. بل هو ربما أكثر أهمية من مصر نفسها.. لكن هل يعلم هو ذلك.. إلى حد ما ربما.. لكن لا بمنطق الخيانة (وهو المستبعد) بل من منطق ‘الأهمية’ التي يكتسبها من وزنه في المنطقة.. من كلماته وأفكاره وتحليله الشديد العمق.. ومن حرصه العميق على الأمة والشعب.. كمفاهيم أولية واعتبارية لا ككائنات حية تعيش وتأكل وتفقد أطفالها وأزواجها برصاصات قناصته هو.. ولكن هل هم فعلاً قناصته هو.. هو المستحيل بعينه.. فقد أثبت في كلامه أن كل ذلك هو من صنع الأدوات العميلة والجهات الخارجية.. ولا تسأل عن الأدلة، فهي تكمن بوضوح في عمق المعنى الحقيقي للاضطراب..
ونحن مرة أخرى أمام ذاك العالم الخيالي الذي تنسجه وبكل امتياز أفكار رجل استيقظ ذات صباح ليجد نفسه في أكبر تحد فكري يمكن أن يتعرض له أحد.. أنت الآن ‘أمل’ أمتك وطائفتك لتخلف أخاً لك قد أخذته يد الأقدار، لا عن عبث، بل لتضعك مكانه.. ومن هو الذي يطلب منه ذاك.. إنه القائد الأسطورة الذي منحته الأقدار فراسة أمة بأكملها.. إنه الأب الكبير الذي ما فتئ يعدّ الأخ الأكبر للقيادة على مدى السنين.. وها هو الآن يطلب منه هو بنفسه أن يهيئ نفسه لقيادة الأمة والوطن والجيل.. والنصيحة الحكيمة الوحيدة التي يجب أن يتذكرها هذا الشاب هي باختصار.. لا تهتم بالجزئيات.. بل فوضها للآخرين.. وابحث لنفسك عن مقعد في التاريخ فهو المكان الوحيد الذي يستحق أمثالك.
إن سورية تعيش الآن مرحلة صراع فكري مع هذا القائد الحالم.. فهي لا تكرهه بشخصه فعلاً.. ولا تستطيع وضع يديها على الجرح الحقيقي.. فالفساد مستشرٍ وهو أيضاً وبنفسه يحارب الفساد.. وسرقة أموال النفط وعائدات الهواتف المحمولة ظاهرة للعيان وهو نفسه من سيقبض على رؤوس الفساد بكل جدارة وثقة.. وهو إنسان جد طبيعي.. يبتسم كالأطفال . يُكثر من حركات يديه أثناء خطابه كالأطفال.. إنه حتماً ليس ذاك الرئيس الراحل بكل جلالته وضبطه لأدنى نظرة قد تؤخذ عليه.. فهذا البشار هو الأقرب للناس والشعب.. الذي تحول، مثله، إلى شعب ضاحك متمتع بالحياة وبسيط فعلاً.. وتحول، ومعه الجميع، إلى عجلة اقتصادية فعالة حتى لو ظهرت على شكل الاتاوات المختلفة في فروع الدولة العتيدة.. فلا مشكلة كبرى حقاً.. كلنا يأكل ويطعم.. من السيد رامي مخلوف إلى أدنى موظف في ذاك الجهاز الحكومي الضخم.. حالة ‘تعايش’ واضحة المعالم وليست في الحقيقة حالة ‘تطفل’ فقط.. وهذا مع من.. إنه مع أهل سورية المعروفين بأصولهم التجارية الشديدة الكفاءة.. فما أخذه السيد رامي مخلوف بيد سيجعله تجار الشام وحلب وغيرهما يدفعه باليد المقابلة.. فالأسعار مرتفعة.. والبيوت مرتفعة.. والكل يأكل ويٍطعم.. ولكن.. لا كرامة ولا حرية بعد الآن.. وهنا بيت القصيد.
ومربط الفرس.. والقشة التي ستقصم، في اللحظة المناسبة، ظهرالبعير.. وستهدم، وللأسف، حلم الرئيس الشاب حين يصحو ليرى كيف قام الواقع، بمهارة، بهدم أحلامه.. شبراً شبراَ.. زنقة زنقة.. ولبنة لبنة.
د عبد الله سعد – بريطانيا