فوتوغرافيا الغرافيتي.. الشارع في صورة
هاني نعيم
لولا الفوتوغرافيا ما كنّا سنعرف عن أعمال الغرافيتي المنتشرة على جدران درعا، المنامة، أو تونس، أو أي مدينة أخرى. على أبعد تقدير، كنّا سنسمع بها، ولكن، بصريّاً، ستكون متاحة فقط لسكّان هذه المدن، وعابري شوارعها وأزقّتها. ما كنّا لنعرف عن غرافيتي “أجاك الدور يا دكتور”، الذي كتب على أحد جسور دمشق والذي أدّى إلى اعتقال كاتبه، أو “الحريّة عروس مهرها الدم” التي كتبت على جدران قرية المالكيّة البحرينيّة؛ لو لم يقم أحد ما بالتقاط صور لهذه الكتابات، ويُشاركها على مواقع التواصل الاجتماعي.
العلاقة ما بين التصوير الفوتوغرافي والغرافيتي بدأت تتصاعد أثناء اندلاع الانتفاضات التي عاشتها مجتمعات عالم ما بين الأزرقين، خصوصاً وأنّ الغرافيتي هو عمل بصري بالدرجة الأولى. فعدم وجود صورة للغرافيتي، يعني أنّه غير موجود إلاّ للذين شاهدوه بأعينهم. ونظراً لأنّ الغرافيتي كانت جزءاً أساسيّاً من معركة الحريّات في وجه الدكتاتوريّة، ارتبط الغرافيتي بالفوتوغرافيا ارتباطاً عضويّاً، وهذا ما أضاف أبعاداً أخرى لأعمال الغرافيتي التي ملأت جدران مدن وقرى العالم العربي.
احترف الناشطون استخدام الغرافيتي وتوظيفه في معركتهم، من حيث استخدام الرموز والشعارات، ابتداعها، تخيّلها، ووضعها في سياقها، وأيضاً احترفوا المطاردات بينهم وبين السلطات التي حاولت حتى اللحظة الأخيرة التمسّك بالفضاء العام. فهي كانت تهدد الناس، ليلاً نهاراً، لتخرج من الساحات العامّة، وقد استخدمت القوّة من أجل ذلك، كما أنّها كانت تقوم يومياً بإزالة أعمال الغرافيتي التي يقوم الناشطون برسمها على الجدران أثناء الليل، وأحياناً في وضح النهار. كانت ترجع الجدران إلى اللون الأبيض، الصامت، الخالي من الملامح، والفاقد الحياة.
عندها لم تعد الفوتوغرافيا خياراً، بل أصبحت هي الدليل الوحيد على وجود عمل الغرافيتي. والتقاط صورة للعمل البصري قبل إزالته من قبل السلطات، يعني ترسيخ الغرافيتي في الفضاء العام، رغم تعرّضه للإزالة على يد أجهزة الأمن التي احترفت طلي مدننا وقرانا بالأبيض.
هكذا، لم يعد الغرافيتي محصوراً بالمكان – الشارع. إذ أن مئات الناس، في اليوم التالي، سيتناقلونه على مواقع التواصل الإجتماعي، ليكون جزءاً من النقاش العام بينهم. هذا النقاش العام ساهم بخلق ثقافة جديدة تهتم بالغرافيتي، توثّقه، تدرسه وتحلله. وبدأت تشهد المكتبة العربيّة إصدارات جديدة تُعالج هذا الموضوع من جوانبه المختلفة. وحديثاً، صدر أوّل فيلم تسجيلي بعنوان “الصرخة الصامتة”، وهو يوثّق للغرافيتي المصري أثناء الثورة، وفيه مقابلات تروي قصص الناشطين والناشطات الذين ساهموا بتركيب المشهد العام، إضافة إلى مقابلات مع باحثين جامعيين يحللون فيه هذا الفن، ويستقرؤون مستقبله.
هذا النضج في حركة الغرافيتي في العالم العربي لم يأت فقط نتيجة التراكم التاريخي الذي عاشته هذه المنطقة من العالم. فحركة الغرافيتي العالميّة، والتجربة الأوروبيّة خصوصاً، ألقت بظلالها على هذه التجارب الصاعدة، وكانت مصدر إلهام وتعلّم أيضاً، خاصةً وأنّ هذه الحركة المتجذّرة في التاريخ الحديث لها خبرتها الطويلة في مواجهة الاستبداد وخلق الثقافات البديلة الخارجة عن الأطر السلطويّة. وكما كانت مدن الضفّة الشماليّة للبحر المتوسط الممتدة من مدريد وصولاً إلى أثينا مروراً بروما، وبرلين مختبر هذه التجارب؛ تتحوّل اليوم مدن الضفّة الجنوبيّة والشرقيّة من هذا البحر إلى مختبر آخر له إيقاعه، وطريقته المختلفة في التعبير، والخلق، في مواجهة الدكتاتوريّات الكلاسيكيّة والحديثة.
مع الصورة الفوتوغرافيّة، خرج الغرافيتي من الحيّز الشارعي – المكاني إلى الفضاء الأوسع، وهذا ما أضاف بُعداً تحرريّاً على تجارب الغرافيتي، التي حرّرت الفضاء العام من ملامح السلطة والدكتاتور، ليكون أكثر التصاقاً بالناس، ملامحهم، أصواتهم، وآمالهم.