فورد وماكرون ومسألة الشرعية السورية/ عمار ديوب
بخفّةٍ سياسيّةٍ، ومن دون تحفظٍ، يقول السفير الأميركي السابق في سورية، روبرت فورد، في مقابلته الصحافية أخيراً، إن بشار الأسد انتصر، وإن الولايات المتحدة الأميركية ستنحسب كما انسحبت من بيروت 1983. أيضاً، يؤكد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إن الأسد رئيسٌ شرعيٌّ. ونضيف أن الإدارة الأميركيّة، توقفت في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس السابق، باراك أوباما، وكذلك مع الرئيس الحالي، دونالد ترامب، عن الكلام عن عدم شرعية النظام. طبعاً، يؤكد الروس أن النظام السوري مُمثّلٌ للدولة، أي هو الجهة الشرعيّة الوحيدة، ولهذا دلالته الواضحة أنّ احتلالهم سورية شرعيّ، وجاء عبر نظامها السياسي. وأوقفت تركيا حملاتها ضد النظام السوري ورئيسه، والخلاف الخليجي الحالي يُقوّي من النظام، ويُضعف بالتأكيد من المعارضة، وهو ما ظهر تهميشاً للشأن السوري، وتدويراً للزوايا من الأطراف الدوليّة، من أجل تطويق ذلك الخلاف. وباعتبارهما دولتين فاعلتين في المنطقة، تتعامل روسيا وأميركا مع المشكلة الخليجية بالضغط على تلك الأطراف، ودفعها إلى تبني موقفها مما يحصل في سورية، أي محاربة “داعش” وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) والتضييق على إيران، ودفع المعارضة لتقبلَ حلا سياسيّا بالشراكة مع النظام الحالي، ومع بقاء رأسه فترة زمنية معينة.
الحضور الإيراني في سورية كثيف وكبير، ولكن لا يمكن مقارنة الوجود الأميركي في شمال سورية وجنوبها وشرقها بالوجود في لبنان قبل ثلاثة عقود، وكذلك سيكون لهذا الوجود دورٌ
“تقول الدول المتدخلة في سورية للسوريين، وللمنطقة، إن الثورات المضادة هي من سيشكل النظام المقبل” مقررٌ وأساسيٌّ في مآلات سورية والعراق ومحاصرة إيران، وذلك في إطار تحالفاتٍ إقليميّة واسعة، لم تتضح ملامحها بعد. يقول الوجود الروسي والأميركي والتركي والإيراني إن سورية أصبحت مُحتلة، وبالتالي يصبح الحديث عن شرعية النظام السوري متهافتاً، وطبعاً سيظل النظام واحداً من الأطراف في أيّة مفاوضاتٍ حالية أو قادمة، أي في أستانة أو في جنيف أو في مفاوضات جديدة.
الدور الفرنسي الجديد في إطار تعزيز الاتحاد الأوروبي مجدّداً، والكلام عن شرعية الأسد، يتأتى على خلفية الموقف الجديد لترامب، وأن أميركا أولاً، وعلى دول العالم أن “تخضع” لها بما فيه الاتحاد الأوروبي. وقد وجد ماكرون أن الخروج عن “طاعة” أميركا أمرٌ مستحيلٌ، وبالتالي خياراته محدّدة للغاية، فإما الدوران ضمن الفلك الروسي، وهذا مستحيل، فروسيا بحصارٍ دوليٍّ وتحكمها “مافيا”، أو الفلك الأميركي، وهذا سيضطره، بالضرورة، إلى التوافق مع رؤية ترامب إلى الوضع العالمي والوضع في سورية، وهو ما أجبره على العودة إلى مواقف جديدة، تؤكد الرؤية الأميركيّة، أي الصمت عن وضع النظام والاستمرار بالسياسات السابقة لزميله هولاند. الحقيقة إن المواقف الدولية، وليست فقط مواقف روسيا وإيران، لم تُهدد “شرعية” النظام طوال السنوات السبع، ولم يتعرض لأيّ عقوباتٍ دوليّةٍ، تخرجه من مؤسسات هيئة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي وسوى ذلك.
التأكيد الدولي على شرعية النظام، وأن لا بديل له، يُفهم منه أن المعارضة ليست شرعية، ولم تحدث ثورة في سورية، وأن الوضع السوري بسنواته السبع الأخيرة يُختصرُ بأن النظام يواجه إرهاباً إسلاميّاً متشدّداَ، وأن على المعارضة التي استغلت هذه الظروف أن تتقبل النظام، وتعود إلى حضنه. ولكن، هل هذا ممكن، وهل هذا فعلاً هو الحل الوحيد؟
تعلم الدول الكبرى وروسيا وإيران ذاتها، أن سورية لم يعد ممكناً إعادتها كما كانت، أي تحت النظام الشمولي، وأن ما جرى في سورية كانت ثورة شعبية، وتمت محاصرتها والإجهاز عليها. على الرغم من ذلك، لم يعد النظام ذاته يمتلك أيّة ممكناتٍ ليعاد إنتاجه شعبيّاً؛ ليس فقط من المعارضة أو سكان المدن المدمرة، بل وكذلك من الموالين، وأن الانتقال إلى أيّة مرحلةٍ جديدة ستفجر كل التناقضات، حيث سينقل الصراع إلى صراعٍ سياسيٍّ، وهذا سيسمح بتشكيل قوىً سياسيّة ونقابيّة وطلابيّة وشعبيّة جديدة، وستطالب بحقوقها. إذاً ستتغير كل أسباب الصمت والرمادية والخوف، بل والانقسامات الطائفية، طبعاً ستظل كتلٌ مصابةٌ بفوبيا مُتعدّدة الأشكال، وستصمت.
ستلعب القوى السياسيّة الجديدة دوراً مركزياً في تقدم رؤيةٍ جديدةٍ لكل السوريين، وأن الدولة الجديدة هي دولة الكل الاجتماعي، ووفق مبدأ المواطنة وشرعة حقوق الإنسان. سيكون التعقيد في هذه المرحلة بسبب أن سورية أصبحت دولةً تحت الاحتلال، وسيظهر للجميع أن سورية ليس فيها أيّة جهةٍ شرعيّةِ؛ فوجود الاحتلال يُنهي شرعيّة أيّة مجموعةٍ سوريّة. الشرعيّة هذه يمنحها الشعب للقوى الفاعلة، بسبب تلبية حاجات هذا الشعب أولاً، وثانياً بمقدار الموقف من الاحتلال وأدواته السوريّة. وفي ظل هذه الاحتلالات، ستكون إدارة الشأن السوري من الدول الفاعلة فيه، أي روسيا وأميركا أولاً، وتركيا وإيران ثانياً، وثالثاً المجموعة الخليجية، وفي مقدمتها كل من قطر والسعودية. وستكون إسرائيل أكبر الرابحين، فمصالحها في سورية والمنطقة ستكون مضمونة، وربما تنفتح مرحلة جديدة في السنوات المقبلة على تطبيعٍ كاملٍ معها.
ويعود السؤال مجدداً: لماذا يتكرّر الحديث عن شرعية النظام؟ الجواب بالتأكيد، وهو مكرّر
“الثورات المضادة هذه، ستُبرزُ قوىً سياسيّةً وطنيّةً مضادة لها” بدوره، لأن هذه الدول لا تريد الاعتراف بأيّ ثورات شعبيّة، وفي أيّة دولة. وثانياً لأن الوضع السوري يقترب من نهايته؛ فتنظيم داعش انتهى تقريباً في العراق وسينتهي في سورية، وسيوضع حدّ لهيئة تحرير الشام قريباً، ضمن صفقة تخفيض التوتر والدول الضامنة لها. إذاً، تقول الدول المتدخلة في سورية للسوريين، ولكل شعوب المنطقة، إن الثورات المضادة هي من سيشكل النظام المقبل، وإن عليها القبول به، وبالتالي أزمات ليبيا واليمن وسورية لن تحل خارج هذا السياق.
معاقبة قطر، والصمت الأميركي حيال ذلك، وإعادة الحياة لعبد الفتاح السيسي، ووضع المنطقة تحت خطر الحرب على الإرهاب والادّعاء بدعمه والاتهام بالإسلامية والجهادية، كلها عناصر تدفع إلى القبول بأنظمة الثورات المضادة، وإعادة الحياة للنظام العربي القديم بأكمله، وإغلاق ملف الثورات الشعبية.
الثورات المضادة هذه، ستُبرزُ قوىً سياسيّةً وطنيّةً مضادة لها، وستكون واعية لشروطها، وقادرة على قراءة الواقع الجديد هذا، وتهيئة الذات الثورية لرفض واقع الثورات المضادة، والنظام القديم والاحتلالات المستجدة للمنطقة. هنا القضية بأكملها، فهل وصل العرب إلى مرحلةٍ يعون فيها شروطهم المعقدة، وينتهجون رؤية وطنيّة وحداثيّة لكيفية إخراج مجتمعاتهم من مشكلاتها، والانتصار لأهداف الثورات العربية في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة.
العربي الجديد