فوز “النهضة” في تونس لن يوقف نهضتها
سلام الكواكبي
إن وصول حزب “النهضة” الى موقع متقدم في المشهد السياسي التونسي هو مرحلة، ستليها مراحل عدة، لدى القوى السياسية المختلفة القدرة على التأثير فيها إن هي عملت في السياسة وابتعدت عن موبقاتها التي أساءت لها.
سجلت الانتخابات الأخيرة لاختيار المجلس التأسيسي في تونس الجديدة إقبالاً لا مثيل له على الاقتراع من قبل شعب لم يمارس هذا الحق منذ عقود، وأكاد أقول أنه لم يمارسه في شكله الصحيح أبداً. وقد أدى الجهد المبذول من قبل لجنة الانتخابات المستقلة التي رأسها وقاد عملياتها بنجاح بارز الصديق كمال الجندوبي، إلى أن تكون عملية الاقتراع في أبهى صورها رغم ما يمكن أن يكون قد اعتراها من هنات لم تمنع المراقبين الدوليين من الإشادة بها واعتبار أنها سجلت مستوى عالياً من الشفافية.
وأسفرت نتائج هذا الفعل الديموقراطي عن فوز حزب “النهضة” ذي التوجه الإسلامي في مقاربته للعمل العام بنسبة عالية من الأصوات وضعته في موقف مريح نسبياً للتفاوض على قيادة المجلس التأسيسي واختيار حلفائه. وعلى الرغم من أن النظام الانتخابي الذي تم الإعداد له بشكل علمي ومتطور قد أفسح في المجال لكل مكونات المشهد السياسي، مهما كان حجم تمثيلها ضئيلاً، لتكون مشاركة في التركيبة المقبلة، وعلى الرغم من الحجم الهائل للإقبال على التصويت، فهذا كله لم يمنع من تقدم حركة “النهضة”.
وما يثير الانتباه هو فوز مرشحي “النهضة” بنسب عالية من أصوات المهاجرين كما هي الحال في فرنسا وفي ألمانيا على سبيل المثال. وهذا يُشير ربما إلى أن سنوات القهر والإقصاء قد لعبت دوراً في تعزيز التعاطف مع هذا التشكيل السياسي / الديني، المنبثق عن تنظيم الإخوان المسلمين العالمي، لدى فئات لا تتقاسم معه بالضرورة ارتباطاته العقائدية ورؤيته المجتمعية المحافظة. إن انتصار “النهضة” في تونس لن يؤدي إلى توقف أو تراجع مسار نهضة تونس الحقيقية وتوجهها نحو تطوير مجالها السياسي وممارساتها الديموقراطية. فعلى هذا الحزب المحافظ أن يُثبت بأن ما طوّره من خطاب سياسي حديث ومنفتح ليس ناجماً عن ممارسة “التقية والتمكن”، وهي مبادئ فقهية تتيح له نظرياً أن يُعيد النظر في كل ما طرحه من خطابات مطمئنة، ليتراجع عنها ويقوم بتطبيق رؤية قروسطوية، قد تساهم في تشجيعها أموال ظلامية تعبق برائحة النفط التي تتسرب عبر طرائق عدة، على مجتمع عرف تطوراً كبيراً على رغم سنوات القمع والتنكيل الطويلة.
من طرفها، ستراجع الأحزاب التقدمية والليبرالية حساباتها وتتوقف عن نزاعاتها الصغيرة ومنافساتها على الصغائر والأنا الذاتية التي أصابت رموزها وأبعدتهم عن ممارسة السياسة الحقيقية ليدفعوا في النهاية ثمناً غالياً في صناديق الاقتراع. يُضاف إلى ذلك ابتعادهم عن التوجه إلى الفئات الشعبية بخطاب واضح ومبسّط، وحصر حواراتهم في مستوى النخبة. وحتى أن حملاتهم الانتخابية كادت تكون معدومة في المناطق الشعبية.
تعتبر السنة الفاصلة عن موعد الانتخابات التشريعية كافية، في الأعراف السياسية الطبيعية، لأن يتم من خلالها إعادة تشكيل التحالفات واستعادة جزء من الساحة العامة من قبل من هم قادرون (وراغبون؟) على طرح مشروع سياسي ومجتمعي واقتصادي واضح. إن الساحة السياسية التونسية مليئة بالشخصيات المؤثرة وذات الصدقية الأخلاقية والنضالية، وعدم تقدمها إلى مرتبة مناسبة في انتخابات المجلس التأسيسي ليس مؤشراً على فقدانها ثقلها في المجتمع، ولكنه عائد بالأساس لعدم وضوح رؤيتها أو عدم وضوح أسلوب طرح هذه الرؤية إن هي وجدت. وضعفها الانتخابي النسبي الذي برز يشير بوضوح إلى انشغالها بالبحث عن سبل التشتت والتفرّق في ما بينها عوضاً عن محاولة إيجاد أرضية مشتركة تساعدها في انجاز تحالفات انتخابية ذات ثقل.
إضافة إلى هذا الضعف البنيوي، فإن البعض من القوى السياسية ذات التاريخ النضالي في مواجهة قمع دولة بن علي، اتجه نحو مصادر المال السياسي رغبة منه في تعزيز تواجده في أوساط الأعمال معتقداً بأن ذلك سيكون ذا تأثير فعّال على الناخبين. فابتعد بذلك عن قواعده وعن مناضليه التاريخيين. وقد تم دفع ثمن هذا الخطأ مباشرة ومن دون أي تأجيل في صناديق الاقتراع.
وفي النتيجة، انتصر عرس الديموقراطية مبدئياً في تونس، و أثبت التونسيون أنهم استحقوا ثورتهم، وأن شهداءهم لم يسقطوا هباءً. وسيثبت التونسيون في المستقبل القريب أنهم أيضاً أهل لممارسة الديموقراطية وتصحيح مساراتها إن لزم الأمر. وسينبثق عن الممارسة الديموقراطية الموعودة، إمكانية استعادة الأحزاب التي فقدت مكانتها السياسية في الانتخابات الأخيرة قواها، إن هي استطاعت أن تعيد صوغ سياساتها ومشاريعها بما يتناسب مع الحقيقة التي ستتمخض عن الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في هذه الفترة الحاسمة والفاصلة التي تسبق الانتخابات التشريعية.
وبالتأكيد، عليها القيام بنقد ذاتي قاطع وعميق وفي سرعة قياسية لتنصرف إلى هذه الأمور بعد تبييض القلوب والأفكار. وستقع في المحظور وستضيع الوقت والفرصة إن هي انصرفت إلى لوم الآخرين ورمي الاتهامات ولعب دور الضحية. وهنا يبرز دور المجتمع المدني الذي عانى ما عاناه إبان حكم الديكتاتورية ولكنه ظل يحمل ذخيرة حيّة قادرة على مواجهة التراجعات عن المبادئ المؤسسة للجمهورية. وللنقابات التي لعبت دوراً مهماً طوال تاريخ البلاد الحديث، وحتى في أحلك الظروف، أن تتصدى أيضاً لمهماتها وأن تمارس رقابتها على الممارسات السياسية والاقتصادية التي تؤثر على مكتسباتها.
قوى عديدة وطاقات كبيرة قادرة، في تونس، على أن تساهم في إنجاح مسار التحول الديموقراطي في الاتجاه الذي يختاره التونسيون وبعيداً عن الإقصاء والعمل السلبي غير المنتج.
إن وصول حزب “النهضة” إلى موقع متقدم في المشهد السياسي التونسي هو مرحلة، ستليها مراحل عدة، لدى القوى السياسية المختلفة القدرة على التأثير فيها إن هي عملت في السياسة وابتعدت عن موبقاتها التي أساءت لها.
إن فوز “النهضة” في تونس لن يوقف نهضة تونس التي تستند إلى جميع قواها وتعتمد على مكاسب تاريخية وإرث ثقافي لا يستهان به وعلى تقاليد مجتمعية تقدمية لن تتمكن أي قوة، مهما عظم تواجدها السياسي في مرحلة ما، وفي إطار ديموقراطي شفاف، أن تحيد عنها أو أن تسيء إليها، ربما.
(باحث وأستاذ جامعي)