فيديريكو غارسيا لوركا: الشاعر القتيل..
ألبير بنسوسان
ترجمة: عبد المنعم الشنتوف
‘آه، إنه الموت الذي ينتظرني فوق أبراج قرطبة’ ف.غ.لوركا.
لماذا كان لزاما عليه أن يعود إلى غرناطة؟ كانت مدريد في تموز/يوليو من عام 1936 تنوء تحت وطأة الحديد والنار، وكان فيديريكو يستشعر الرعب من الاعتداء عليه. ولذلك، كان يؤثر البقاء في منزله، وكان أي انفجار في البعيد يحمله على الاختباء تحت الطاولة. كان سيىء الظن وإن لم يكن نذلا. وكان أشبه ما يكون بطفل مضطهد. هو ذا لوركا رجل اللقاءات في الأزقة والمولع بالضيافة وحسن الوفادة أو الشغوف كما يقول الإسبان بالأحاديث والعلاقات الاجتماعية مع الآخرين وقد وجد نفسه ممنوعا من الإقامة والصداقة. كانت مدريد تنوء تحت وطأة القلق الناتج عن هاته الخطوات الأولى صوب الحرب الأهلية.
هكذا، إذن، فر إلى غرناطة موطن العائلة، حيث كان يأمل في استعادة الشعور بدفء العائلة والصداقة، والرغبة في العودة إلى الحياة. وسوف يكون هذا القرار ذا عواقب وخيمة بالنسبة إليه. لم يكن يعرف حتى تلك اللحظة، أو ربما كان يعرف، وهو الذي كان مهووسا بذلك، أنه يذهب صوب الموت. هل أخطأ المدينة، عندما كان يشدو في أشعاره الأولى: قرطبة البعيدة والوحيدة، آه، إنه الموت الذي ينتظرني فوق أبراج قرطبة. كان الموت في انتظاره للأسف الشديد بين الأسوار العالية لغرناطة، المدينة التي تأوي أسوأ رموز البورجوازية الإسبانية، كما عبر عنها بشكل علني، والتي سرعان ما سوف يختفي داخلها عن الأنظار بطريقة أسوأ من مدريد. ذلك أن غرناطة سوف تتحول بسرعة فائقة إلى مدينة واقعة تحت إسار الرعب.
وصل فيديريكو إلى غرناطة في 14 تموز/يوليو من عام 1936، أي قبل أيام قليلة من البداية الرسمية لانقلاب الجنرال فرانكو. ذهب بطبيعة الحال عند أهله في ضيعة سان فيثنتي، لكن النبأ سرعان ما انتشر بين الناس بواسطة الصحافة المحلية ليحيط الجميع علما بأن شاعر غرناطة الكبير عاد إلى مسقط رأسه. كان فيديريكو يأمل ،في الحقيقة، في أن يمكث بعض الوقت، أي المدة الكافية لكي يستعيد صحته وأيضا كي ينهي صديقه رابون سنتة الدراسية الجامعية، ذلك أن مارغريتا كسيرغو تنتظره في المكسيك، حيث تزمع القيام بجولة مسرحية عنوانها العريض والرئيس لوركا. غير أن هذا الأخير لن يعرف أبدا المكسيك التي سوف تتحول في الشهور القليلة اللاحقة إلى أرض استقبال للعديد من الإسبان المناصرين للجمهورية والعديد من اللاجئين الباحثين عن الحرية. كان لوركا يرغب في أن يتحرر صديقه وعشيقه رابون من الامتحانات وأن يقصدا سوية إلى ما وراء البحار، لكن القدر شاء غير ذلك. كان المتآمرون الكتائبيون والفرنكويون (لم يكونوا معروفين بهذا الاسم حتى تلك اللحظة) يعمرون المدينة البورجوازية، وكانوا يمقتون مبدع ‘الأغاني الغجرية’ و’ماريانا بينيدا الجمهورية’. كانوا يمقتون فيه كونه راعي المسرح الشعبي والثوري لفرقة باراكا التي قامت بتوعية الكثير من المواطنين الإسبان بالثورة القروية، فيوينطي أوفيخونا للوبي دي فيغا. حملهم على أن يظهروا مثل متمردين وأن يختاروا عدم الخضوع. كانوا يمقتون فيه الشاعر ذا النزوع المثلي الجنسي، الذي كان تجسيدا للفضيحة في نظر الطهرانية الكاثوليكية والتي لن تتأخر في كتم أنفاس إسبانيا تحت أثقال الصمت والمنع.
كان فيديريكو واعيا بهذا العداء وما يبيته له خصومه. عمد بدافع اللامبالاة واللعب إلى التسكع في أزقة غرناطة. احتفى به الأصدقاء، وكان لا يني يتسكع ويقوم بقراءات شعرية مثلما هو الشأن مع عرض مسرحيته الأخيرة ‘منزل السيدة برناردا ألبا’ الذي قدمه في الحي الغجري لغرناطة المعروف باسم البيزين وتحديدا داخل فيلا أحد أقربائه. لكن ها نحن نرتد إلى تاريخ 18 يوليو الذي يحتفل فيه داخل البناية العائلية ‘سان فيديريكو’ بعيد القديس فيديريكو، وكان الشاعر وأبوه يحملان اسمه. تقاطر الأصدقاء من كل أنحاء لا فيغا، غير أن الأمور تغيرت في سنة 1936، ولم تلبث الحفلة أن تعكرت أجواؤها بسبب نبأ بدء انتفاضة الجنرال فرانكو التي اندلعت شرارتها الأولى من جزر الكناري التي كان الجنرال الانقلابي قائدا لحاميتها، وكذلك في المغرب. ومنذ زمن طويل، وتحديدا منذ الفترة التي كان فيها قائدا عاما للقوات الاستعمارية، كان يعد قواته لاستلام السلطة. وفي المساء ذاته، تمكن الجنرال كييبو يانو من إحكام قبضته على حامية إشبيلية، وهي الأهم في جبهة الأندلس، وسرعان ما شرع في بث أحقاده وسمومه على أمواج الإذاعة الإسبانية ضد الجمهورية، وهو الذي كان رغم ذلك طفلها المدلل. وفي مدريد، كانت الحكومة في تفتت كامل، وكان الوزير الأول سانتياغو كاساريس كيروخا الذي عجز عن تحريك القوات الجمهورية في اتجاه الأندلس قد قدم استقالته، وهو ما شكل بداية النهاية. كانت الجمهورية تزمع التصدي للتمرد بالوسائل الشرعية، ولكن المسألة تتكرر وتتعلق بضعف الأنظمة الديمقراطية؛ إذ ما الذي يمكن أن تفعله الشرعية أمام القوة الوحشية للانقلاب الذي كان يضاعف أكاذيبه ويدلق أحقاده؟ كان فيديريكو مدركا لكل ذلك من خلال الأسوار البيضاء للمنزل العائلي الهادئ في منطقة لا فيغا بغرناطة. وها هو الآن وقد صعقه الهلع. وكما هو الشأن بالنسبة للقمع الذي كان يضرب منزله في النظام الديكتاتوري السابق، فلم يكن يرغب إطلاقا في مغادرة منزله، وكان يؤثر عوضا عن ذلك التحصن داخل خوفه. وهو الذي لم يمارس إطلاقا السياسة، أو اختار الانحياز إلى فريق ضد آخر، وهو الذي وصفه سلفادور دالي بأنه الشخص غير السياسي الذي أتيح له أن يعرفه، يعرف على الرغم من كل شيء ان له عديدا من الأعداء السياسيين. وفي 20 تموز/يوليو سقطت حامية غرناطة بدورها في يد الانقلابيين، ولم يلبث أن ألقي القبض على صهر فيديريكو مانويل فيرنانديز مونتيسينوس زوج شقيقته الصغرى كونشا وعمدة غرناطة بالوكالة. أقيمت بعض المتاريس العبثية في الأحياء العليا للمدينة، لكن ذلك كان دون طائل؛ إذ لم تلبث أن سقطت المدينة نهائيا بتاريخ 23 تموز/يوليو في أيدي المتمردين الذين عمدوا بغاية إحكام قبضتهم إلى بث الرعب. كانت كتائب الموت أو الكتائب السوداء تنشر الموت على أعتاب غرناطة.
قام لوركا بتاريخ 18 تموز/يوليو رغم الخوف الذي كان يشعر به بزيارة صهره في السجن وقدم له بعض الطعام، لكن لم يكن في مقدوره حتى الاقتراب منه. وكان أن عاد إلى المنزل وهو يبكي ويشعر بالقرف والخوف وسارع إلى الارتماء فوق السرير. هل حدس بأنهم يبحثون عنه ويرغبون في تصفيته؟ رأى فيما يرى النائم حلما روى تفاصيله إلى صديقه إدواردو رودريغيز فالديفييسو. رأى في كابوسه أنه كان مطروحا فوق الأرض (هكذا مثل نفسه غالبا في الدراماتورجيا اللعبية بحضور أصدقائه وسالفادور دالي الذي قام برسم موته دون أن يدري) ومحاطا بالنساء المتشحات بالسواد الجنائزي وهن يحملن صلبانا يهددنه بها. هل كان الأمر يتعلق في هذا المعرض ببرناردا آلبا المسيحية المتعصبة التي كانت تعذب بناتها والتي كانت تنوء تحت وطأة الكبت والرغبة في الثأر والتي كانت تنتصب حياله و هي محفوفة بكل أولائك الأرامل الحانقات اللاتي حفلت بهن أعماله؟ كان فيديريكو يعرف بأنه يعيش أيامه الأخيرة، وكان مدركا لذلك ويستشعره في أعماقه. كان في الحقيقة مهووسا بهذه الرؤية.
شرعوا بالفعل في البحث عنه والرغبة في القبض عليه. وفي السادس من آب/اغسطس حلت إحدى هاته الفرق الكتائبية الفظيعة بضيعة سان فيثنتي. وكان يقودها واحد من أفظع الأسماء الفاشستية وهو القبطان روخاس المسؤول عن مجزرة الفوضويين في كاساس فييخاس على مقربة من مدريد في كانون الثاني/يناير من عام 1933 والتي حوكم من أجلها بإحدى وعشرين سنة سجنا، لكن سرعان ما تم إطلاق سراحه في السنة الموالية من لدن الإدارة اليمينية للجمهورية، وجرى تعيينه في غرناطة. كان مانويل روخاس على يقين من امتلاك لوركا لجهاز إرسال يتيح له الاتصال بالروس. تم تقليب محتويات المنزل تحت أنظار الأسرة المرعوبة، وبطبيعة الحال، لم يعثر روخاس على شيء، ولم يلبث أن غادر المنزل.
لكن فيديريكو وأفراد عائلته كانوا يشعرون آنا بعد آن بالقلق. ومما زاد من حدة ذلك الشعور أن صديقا قديما للعائلة اسمه ألفريدو رودريغيز أورغاز وكان مهندسا بلديا في غرناطة ومناضلا اشتراكيا كان يعيش مختبئا منذ 20 تموز/يوليو سارع إليهم في الغد طالبا مساعدتهم. وقد روى لهم في هذا الصدد أخبار الإعدامات اليومية والفظاعات التي ترتكبها القوات الوطنية. لكن فيديريكو حافظ على اطمئنانه رغم ذلك، ورغب في أن يقنع نفسه بأن غرناطة التي تسحقها القدم الوطنية محاطة بالقوات الموالية للجمهورية التي لن تتأخر في فرض النظام. وفي تلك الليلة وفي الوقت الذي كان فيه المهندس يطلب فيه من دون فيديريكو والد الشاعر مساعدته على الالتحاق بالمنطقة التابعة للجمهوريين والواقعة على بعد كيلومترات من الضيعة، اقتربت فرقة من الكتائب السوداء من المنزل. فر المهندس من الباب الخلفي متخفيا بالظلام ونجح في الوصول إلى مدينة سانطا التابعة للجمهوريين والتي كانت تقع في منتصف الطريق بين غرناطة وفوينطي فاكيرو، ومن هناك، التحق بمدينة ملقة. كان في مقدور فيديريكو أن يرافقه وأن يفلت من ثم من كل أولائك الذين يضيقون الخناق على شخصه، لكن الخوف شل إرادته وحال بينه وبين ذلك.
وفي التاسع من آب حلت فرقة أخرى من الكتائب السوداء بضيعة سان فيثنتي، وكانوا بصدد البحث عن جار لوركا واسمه غابرييل بيريز رويز الذي كان متهما بكونه شقيقا لقاتلين. ألقوا القبض عليه وقاموا بجلده على مرأى ومسمع من أفراد عائلته واقتادوه معهم، غير أنهم اقتحموا قبل ذلك منزل لوركا، وأنزلوا فيديريكو بهمجية من غرفته وقاموا بضربه وهم ينعتونه بالمخنث والشاذ. عمدوا بعد ذلك إلى صف كل أفراد العائلة في ساحة المنزل في محاولة للإيهام بإطلاق الرصاص عليهم. هل كانوا يرغبون حقيقة في ذلك؟ لا يمكننا الجزم بذلك؛ إذ لا نتوفر في هذا الصدد على معرفة كافية؛ لأن فرقة أخرى حلت بدورها بالمنزل وطلبت من الأخرى الانصراف. غادرت القوتان المنزل تاركة عائلة لوركا وهي في حالة يرثى لها من الخوف. وفي تلك اللحظة، تحقق عند فيديريكو الوعي بما يريده الخصوم من شخصه، عمد إلى الاتصال هاتفيا (ومن حسن الحظ أن الهاتف تم تثبيته في لا فيغا قبيل حلوله بين ظهراني أهله) بصديقه لويس روزاليس طالبا منه النجدة. كان هذا الرجل الأنيق وذو الحس المرهف طالب فلسفة وقد نشر لتوه أولى قصائده صديقا منذ زمن طويل لفيديريكو. كانا يلتقيان بانتظام سواء في غرناطة أو في الضيعة كي يتجاذبا أطراف الحديث عن الشعر. كان لويس روزاليس قد نشر أيضا مقالة مليئة بالثناء والتقريظ عن ديوان ‘أغان غجرية’ في مجلة ‘كروز إي رايا’ الذائعة الصيت. كان هذا الرجل الذي كان صديقا حقيقيا يملك ميزة لا غنى عنها في هذا السياق الراهن؛ إذ انضم إلى الكتائب السوداء في 20 تموز/يوليو حاذيا حذو شقيقيه خوسي وأنطونيو اللذين كانا أيضا عضوين بارزين في الحزب في غرناطة. تم تعيين لويس روزاليس زعيما لقطاع ‘الكتائب’ في مدينة موتريل وهي بلدة قريبة من غرناطة. وقد شكل ذلك واحدة من الضمانات المحمودة بالنسبة لفيديريكو. عرض لويس روزاليس على صديقه إما أن يساعده في الهرب إلى التراب الجمهوري؛ لكن فيديريكو كان ينفر من فكرة مغادرة عائلته والبقاء وحيدا فيما يشبه المنفى، أو إيواءه في المنزل العائلي بموافقة والديه. وقد اختير إذن هذا الحل باعتباره الأكثر أمانا؛ إذ من الذي سوف يجرؤ على التعرض لحياة لوركا في بناية أصبحت واحدة من قلاع الكتائب؟ والحال أن فيديريكو سوف يسقط دون أن يرتاب في الأمر في فم الذئب.
وفي العاشر من غشت، جاء السائق الخاص بعائلة روزاليس وفي جو من التكتم التام للبحث عن فيديريكو في ضيعة سان فيثنتي واقتياده إلى غرناطة في مكان آمن. كان الشاعر يرتدي بذلة خاصة بالبحارة وربطة عنق سوداء؛ وهي بذلة كان الشاعر يؤثرها، وهو ما تدل عليه تلك الصورة الملتقطة في بوينيس إيرس عام 1934 صحبة بابلو نيرودا وأصدقاء آخرين كانوا يرتدون البذلة البحرية نفسها. حمل معه أيضا بعض الثياب وبيجامته الزرقاء المخططة بالأبيض. كان يحتفظ في داخله بداهة بتفاؤل نسبي؛ إذ لم يكن يعتقد في أنه سوف يغيب أكثر من بضعة أيام عن منزله. والحال أنه في اليوم الموالي، ومباشرة بعد انصرام بضع ساعات على رحيله أو فراره، قام الكتائبيون بزيارة أخرى إلى ضيعة سان فيثنتي، وكانت غايتهم هاته المرة شخص الشاعر نفسه. قاموا بالبحث عنه في منزل ابن عمه الواقع على بعد عشرات من الأمتار من ضيعة تماريت. وكان ثمة جرة كبيرة من الطين اعتقدوا أن الشاعر مختبئ بداخلها. وكانوا في انتظار ذلك يفتشون في منزل والدي لوركا عن أوراق تدين الشاعر أو مقالات تثبت ارتباطه بـ’الحمر’، بل إنهم عمدوا إلى تفكيك البيانو بحثا عن جهاز الإرسال الذي كان الجميع يعتقد أنه في حوزة الشاعر. كان لوركا في نظر الكتائبيين مناضلا شيوعيا يحتفظ بأواصر مع أخطر العناصر الحمراء الموالية للنظام الجمهوري في إسبانيا.
لم يكن يعرف أنه لن يعيش إلا ثمانية أيام. وداخل هاته البناية الغرناطية التابعة لعائلة روزاليس، كان فيديريكو يقيم في الطابق الثالث. والحقيقة، أنه لم يكن ثمة في البناية من يعتبره ‘هاربا’، بل إن العكس هو الصحيح. كان يغدو ويروح في المنزل ويتبادل الأحاديث أو ينشد بعض الأشعار أو يعزف على البيانو الذي حمل خصيصا إلى غرفته. كان يشعر بالراحة وسط مضيفيه، ويفصح عن لباقة خاصة تجاه من كان يدعوها ‘جلادته المقدسة’ وهي إسبيرانزا شقيقة لويس الذي وعدها بعودة قريبة إلى مدريد؛ حيث سيذهبان سوية للاستمتاع بعرض مسرحيته القادمة. وفي المساء وغب عودة لويس بالبذلة الزرقاء الخاصة بالكتائبيين، كان الصديقان يواصلان السمر بنقاشات شعرية ساخنة كانت تستشرف درجة تأليف نشيد يحتفي بذكرى كل ضحايا هاته الحرب ـ التي بدأت لتوها- كان لويس يؤلف الكلمات فيما اضطلع فيديريكو بتأليف الموسيقى. لم يلبث هذا المشروع أن أجهض بسرعة؛ لأن أيام لوركا أصبحت معدودة على رؤوس الأصابع.
كان على علم بفضل قراءته اليومية لجريدة ‘إيديال’ بالإعدامات المطردة للغرناطيين الجمهوريين، والتي ازدادت حدتها بقصف الطائرات التابعة للجمهوريين للمدينة؛ وهو ما أضفى على هاته التصفيات طابعا ثأريا وانتقاميا. كانت الدورة الجهنمية للعنف والانتقام والحقد بين الإخوة قد اندلعت شرارتها، وسوف تنتهي عام 1939 بنهاية الحرب الأهلية بالرقم المهول المتمثل في مليون من الضحايا؛ أي ما يعادل 4 في المائة من ساكنة إسبانيا. كان فيديريكو قلقا من المصير المخصص لصهره مانويل مونتيسينوس؛ إذ كان يقرأ عن إخراج السجناء كل يوم من زنازينهم واقتيادهم إلى ساحة الإعدام. ونعتقد في هذا الخصوص أنه طلب من روزاليس أن يتدخل لصالحه.
غير أن الكتائبيين سوف يعودون من جديد في 15 آب إلى ضيعة سان فيثنتي وفي حوزتهم أمر باعتقال الشاعر. وبعد أن قلبوا محتويات المنزل رأسا على عقب، هددوا باقتياد والد الشاعر إن لم يبح بمكان اختباء ابنه. وهكذا، طفح الكيل بكونشا الشقيقة الصغرى التي كانت ترتعد خوفا على أطفالها الثلاثة بالنظر إلى اعتقال زوجها كما رأينا في اللحظات الأولى للانقلاب، وباحت بمخبأ شقيقها الأكبر. سوف يتم إعدام زوجها مانويل مونتيسينوس في اليوم الموالي، وما أن أحيط فيديريكو علما بذلك حتى تحقق عنده الوعي الكامل بالخطر الداهم الذي يحيق به. رغبت عائلة روزاليس في أن يلوذ ـ وكان ذلك افتراضا تم طرحه في لحظة فرار الشاعر – بمنزل مانويل دي فايا المفخرة العالمية الذي تبدو كاثوليكيته المفرطة ضمانة ضد الحقد الكتائبي الذي كان يرغب في تصفية الشاعر. بيد أن هذا الخيار جاء متأخرا؛ إذ في ليلة 16 آب، توقفت ثلاث سيارات أمام بناية عائلة روزاليس، وكان على رأس الفرقة رامون رويز ألونسو وهو كتائبي صلب ومتزمت، ونائب برلماني سابق عن كونفيدرالية أحزاب اليمين المستقل. كان يشعر بعض الشيء بالخيبة من فرع ‘الكتائب’ بغرناطة الذي لم يكافئه ماديا بما يكفي تقديرا لانضمامه إلى الحزب الفاشستي، والذي يرى أبواب الأمل تفتح أمامه بغتة. أن يعتقل واحدا من ‘الحمر’ في معقل ‘الكتائبيين’ على مرأى ومسمع من الجميع. إنها ضربة حظ لا تعوض. سوف يتم التصدي والاعتراض، بل وصل الأمر حد الذهاب إلى الجبهة بحثا عن واحد من آل روزاليس، لكن دون جدوى. وسوف يتم اعتقال لوركا بالذريعة التي عبر عنها ألونسو والمتمثلة في أنه ‘سبب بقلمه من الأذى أضعاف ما تسبب فيه الآخرون بالمسدسات.’
كان لوركا منزويا في غرفته ويصغي إلى كل هاته الحركة الدائبة في الأسفل وما يقال عنه. كان من الرعب في نهاية، وهو يحاط علما بأن حياته قد ضاعت.هكذا، إذن، ركع على ركبتيه وهو يرتعد من الرعب ويبكي قبالة صورة القلب المقدس وطفق يصلي. نزل بعد ذلك ليتم اقتياده بالسيارة إلى مقر الحكومة، أي الولاية الواقعة على بعد أمتار من منزل روزاليس. وكان من سوء حظه أن الحاكم المدني جوزي فالديس كوزمان كان في جولة تفقدية وقد تم تعويضه مؤقتا بعقيد من الحرس المدني اسمه نيكولاس فيبلاسكو سيمارو. وهكذا، وجد الشاعر الذي نتذكر أنه كان مهاجما للحرس المدني في مواجهة شخص لم يكن ليغفر له وهو يتذكر هذا الهجوم، وذلك على الرغم من وساطاته القوية والنافذة في فرع ‘الكتائب’ بغرناطة. ومنذ تلك اللحظة، انتهى كل شيء، ولن تجدي كل الوسائل، بما فيها تدخل عائلة روزاليس ومحامي عائلة لوركا. سوف يذهب لويس روزاليس شخصيا إلى الولاية كي يشجب صنيع رويز ألونسو الذي كان اقل رتبة منه. لم يكن في مقدوره فعل أي شيء حيال ممثل الحكومة الوطنية جوزي فالديس كوزمان الذي لم يحرك إصبعا واحدا كي يوقف آلة التحريض الجهنمية حيال الشاعر المتهم بكونه ‘أحمر’. وفي 18 آب وفي تمام الساعة الثالثة صباحا، غادر فيديريكو الولاية وهو مغلول بالأصفاد إلى جانب مدرس يدعى غاليندو غونزاليس. سارت بهم السيارة التي كان بداخلها أيضا عنصران من الحرس المدني وجنديان من الكتائب عشرة كيلومترات إلى فيزنار. وهناك، على حافة جرف، سوف يتم إعدام الرجلين بمعية مناضلين فوضويين كانا من حملة الأعلام في الكوريدا الإسبانية. أسر عنصر شاب من الحرس المدني في تلك اللحظة إلى لوركا بأن إعدامه وشيك وأعانه على الصلاة؛ ذلك أن الشاعر المصعوق بتأثير الرعب قد نسي كلمات صلاة الموت التي لقنته إياها أمه. وقبل أن تهل تباشير الصباح، وفي تمام الساعة الخامسة، صف الرجال الأربعة قبالة حقل زيتون وعلى مقربة من نافورة كان خريرها ينبعث وتسمى نبع الدموع. أعدموا رميا بالرصاص والقوا بهم في حفرة اختلطت بداخلها أجسادهم بالأرض وغبار النسيان والغمغمة اللامتناهية للنشيج.
تحول هذا الحقل الآن إلى حديقة فيديريكو غارسيا لوركا، ويتقاطر المئات من الفضوليين بانتظام لرؤية الحفرة الكبيرة التي ما زالت جلية للعيان، حيث تختلط جثة الشاعر بجثث المئات بل الآلاف من الشهداء الآخرين ضحايا القمع الفرنكوي في غرناطة. من يكون في مقدوره فرز هاته الجثث؟
سوف يكتب سلفادور دالي وهو يذكر موت صديقه وعشيقه القديم هاته الكلمات:
‘ منذ بداية الحرب، لقي صديقي الكبير ومبدع ‘الموت الرديء’ فيديريكو غارسيا لوركا حتفه رميا بالرصاص في مدينة غرناطة التي احتلها الفرانكويون. يا له من عبث. لوركا الذي كان بامتياز الشاعر الأكثر بعدا عن السياسة على الأرض يموت رمزيا باعتباره الضحية القربان للفوضى الثورية. كانت للوركا شخصية مرنة ومنفتحة وعصية على التصنيف بما يكفي؛ بحيث كان في مقدور أي إسباني أن يعدمه رميا بالرصاص.’
كان دالي في الحقيقة أكثر بعدا عن السياسة وبشكل أناني من لوركا. ويجدر بنا أن ننوه في هذا السياق بأن لوركا وإن كان ‘صديقا للشعب’ بل و’صديق الجميع’ لم يتخذ في الحقيقة أي موقف خلال الحرب الأهلية، و تتمثل المفارقة التي تسم موته في أنه وقد اتهم بكونه ‘أحمر’ سوف يموت بسبب حماية أصدقائه الكتائبيين؛ وهو ما يشبه قدرا وحشيا.
سوف يؤكد لويس بونويل في خصوص صديقه الدائم رغم بعض الخصومات أنه لم يكن للوركا أن يشغف بالسياسة، وسوف يترك لنا نص ‘تنهيدتي الأخيرة’ الذي يمكن عده شهادة مؤثرة عن الصداقة، علاوة على تقييمه الخاص لإعدام لوركا:
‘كان خبر موته صدمة رهيبة بالنسبة لنا جميعا، ومن بين كل الأشخاص الذين عرفتهم، كان فيديريكو الأول من حيث الحظوة. لا أتحدث في هذا السياق لا عن مسرحه ولا عن شعره، وإنما عن شخصه. ويبدو لي أنه من الصعب تخيل شخص يمكننا أن نقارنه به. كان عصيا على المقاومة وهو يعزف على البيانو كي يقلد شوبان أو يرتجل تمثيلا إيمائيا أو مشهدا مسرحيا قصيرا. كان في مقدوره أن يقرأ أي شيء وكانت الملاحة تفيض من بين شفتيه. كان يشتمل على الرغبة والفرح والشباب، وكان أشبه ما يكون بشعلة متوهجة’.
لم يتم العثور، في الحقيقة، على جسد الشاعر؛ إذ تم إفراغ الجير الحي على الأجساد المكومة. غير أنه سوف يبقى من أجل هذا السبب أسطورة حية دالة على الانحطاط الفرنكوي الذي كان قد أعلن على لسان أحد أحقر رموزه: الموت للذكاء، ورمز اسبانيا الشهيدة. مثل لوركا في هذا السياق الضحية الأيقونة للحرب الأهلية، وسوف يمثل للأبد وللأجيال اللاحقة ‘الشاعر القتيل’.
القدس العربي