فيليب روث وإيمري كيرتيش يطالبان بالحقّ في التقاعد
الكتّاب ليسوا أنصاف آلهة بل بشر فانون كالباقين
رلى راشد
فلنعترف بأن في فكرة تقاعد الكاتب شيئاً من التجاسر، كأن في حركة مماثلة هتكاً للمحرمات. يخيفنا أن يرفَع الكاتب منطق الإنسحاب من اللعبة التأليفية، لِعِلّة نضوب الإلهام او لتراجع الحماسة أو التعب فحسب. يجعلنا نتذكر أن الكتّاب ليسوا آلهة أو حتى أنصاف آلهة بل هم بشر فانون، يلتحقون بقافلة البشر الآخرين. نعلم أن بين الفن والحياة مسافة، فظننا أن ناقل الفكرة ايضا غريب عن الحياة، نسينا انه يأكل ويتنفس ويحبّ ويكره، وأن الشح في الإلهام يمكن أن يستبد به وأن يتضاءل فيموت مثلما يموت النهر. ذكّرنا فيليب روث وبعده إيمري كيرتيش قبل أيام بهذه الامثولة.
لا يمكن الكاتب الحقيقي سوى أن يهجس بفكرة كونه بجودة آخر نص انجزه، أما “الكتاب الأخير” فيمكن أن يعني الأحدث كما يحتمل أن يعني النهائي. أسرّ الأميركي فيليب روث لمجلة “ليز انروك” الفرنسية قبل أيام أنه اكتفى من التأليف وان روايته “بلاء” الصادرة في 2010، ستشكل نقطة الوقف. ستصير هذه الإستعادة التخييلية لمجموعة أخطار تهددت يفاع فيليب روث ذريعة انسحابه كاتبا، والخبر أكده ناشره “هامفتون مايفلين”. يستعين البعض بمنطق التراجع الإستراتيجي، فيهيئون لانسحابهم عبر نشر سيرة ذاتية حيث يقحمون قسطا وافيا من رأس مال جمعوه خلال مسارهم التأليفي، او يلجأون الى صيغة المذكرات، وفي الحالتين تهيئة للقراء الى حقيقة انهم راغبون في الصمت. أفضى الكاتب روث ابن التاسعة والسبعين في المقابلة المذكورة آنفا، انه راح منذ خمسة أعوام يكرر قراءة عناوين كتّابه الأثيرين، وهؤلاء دوستويفسكي وكونراد وتورغينيف وهمنغواي. تفرّغ بعدذاك لإعادة مطالعة كتبه بدءا من أحدثها “بلاء”، ليستنتج أنه قام بأفضل ما في وسعه نظرا الى ما توفر لديه.
ثمة مفارقة في أن يكون إرنست همنغواي أحد مصادر افتتان روث الكتابية، وفي الوقت عينه أحد الاضواء التي نوّرت طريق خياراته الصعبة وحدت به في زمن الشيخوخة، الى الكف عن الكتابة. التقاعد أقبح كلمات القاموس، قال همنغواي مرة، ويخيّل إلينا انه فضّل أخذ حياته بيده، من طريق طلق ناري، على أن يواجه التقاعد القسري بعدما تلاشت صحته وتبددت معها القدرة التأليفية. بين الموت في الحادية والستين، والتشبث بالحياة لأعوام إضافية محروما من الكتابة ذريعة عيشه، تراءى خيار همنغواي شبه محتوم. صار الموت فكرة رومنطيقية رفيعة، تجعل من الاستحقاق أهون الشرور في عرف كاتب انطفأت جذوة إلهامه.
عندما بات لا مفرّ من ان يستسلم الى قرار اعتزال الكتابة، لم يمتثل روث الى تطرّف مواطنه همنغواي. في حين برر خطوته بالإحساس بالتخمة، أخذنا من حيث لا ندري، الى اللغو الكلامي. أشار الى انه أقلع عن الكتابة منذ ثلاثة أعوام بعدما فقد الرغبة في الاقتراب من اي نص تخييلي. لم يعد يريد قراءة النوع او كتابته او التحدث في شأنه حتى ليرى أن تكريس حياة برمتها للرواية ودراستها وتدريسها مبرر أكثر من كاف للحاجة الى النأي عنها. انه نمط السأم عينه الذي لاذ به الفرنسي جوليان غراك الذي مكث في الموسوعات الأدبية إسما رفض جائزة “غونكور”. بدءا من 1970 تخلى غراك عن التخييل ليشرح في مقابلة صحافية ان الرغبة في كتابة الرواية انتفت عنده في موازاة فقده لأدواتها.
انتقى الكاتب المجري الثمانيني إيمري كيرتيش صحيفة “اندكس” الوطنية لتحظى بشرف أن تصير كرسي اعترافه، أو لنقل حاضنة قراره بالصمت التأليفي، هو الآخر. الكاتب الذي أثث نصه بالإنسانية الشاعرية، مسّته الحاجة الى السكوت أيضا، أغواه على ما يبدو أن يتوقف عن تضميد الواقع بالكلمات. كان الهولوكست، واقع كيرتيش الأكثر مرارة وقماشة عناوينه الخمسة عشر. شكلت علاقته بالمأساة الشخصية- الجماعية تلك (وهو أحد الناجين من المعتقلات النازية) أفق التأليف عنده، لكن آن للجمر المتّقد أن يخمد. أفرغ كيرتيش كل ما عنده في هذا الخصوص، فلم تعد الكتابة تنزّ من الجرح العتيق. تصالح اليوم مع الأمس عند الكاتب المجري، فبانت العتمة ملاذا مريحا. كان التأليف هدية جميلة في عرف الكاتب الحاصل على نوبل الآداب من دون شك، لكنها كانت من صنف الهدايا المنهكة. أخرجت الخوف والخشية والعذاب والوهن وتركته في شرك داء باركنسون، من غير سلطة على أطرافه. ولأن عناوين كيرتيش بدت سلطة معنوية ضد الهمجية، لم يرغب على ما يبدو في أن يواصل امتهان الكتابة محروما من السلطة الكاملة على أدواته الجسدية.
تولت نصوص كيرتيش إسقاط الغشاء بين البلاغة التنظيرية والتجربة المعيشة المروية ولاسيما في “من دون قدر” الذي صار من الكلاسيكيات. في هذا المؤلف كرر نفي وجود خط فاصل بين التخييل والحقائق، وبين الكاتب والشخصية. أما “رسائل الى إيفا هالديمان” (2009) خاتمة عناوينه حيث جمع رسائل تبادلها خلال عقدين مع الناقدة والمترجمة هالديمان ذات الأصول المجرية، فجاءت أمثولة شغف، من خلال وصفها لنمط اشتغاله التأليفي والصعوبات التي انطوى عليها. ينسحب كيرتيش من مرتع الكتّاب المنتجين في موازاة منح محفوظاته التي تقع في نحو خمسة وثلاثين ألف وثيقة، لـ”أكاديمية الفنون” في برلين. كأن تلك آخر حركة في السمفونية التأليفية.
قبل نحو عام تسرّب خبر مبالغ فيه في شأن فقد الكاتب الكولومبي غبريال غارثيا ماركيز حضوره العقلي، ليتدفق سيل تضامني من رسائل القراء. صعب على هؤلاء أن يسلّموا بأن الكاتب الذي تضاءلت ظهوراته العلنية منذ اصدار “ذاكرة غانياتي الحزينات”، وصاحب الذهن الجميل، أخذ في شرك المسنّين. تعذر عليهم أن يقتنعوا بأن صائد مخاوفهم وقلقهم وهذيانهم وعوراتهم النفسانية متروك الى قدر البؤساء العاديين. ربما نقرأ في قرار كيرتيش وروث محاولة لتجنب شفقة تأتيهما من مريديهما على نسق غارثيا ماركيز. ربما يرغبان في أن ينأيا بنفسيهما عن نفسيهما إذا خطر في البال إصدار نص مقصر يعتم على تجربة مضيئة. يقولان في الأرجح ان التوقف عن التأليف خيار، وان كتابة المرء لفصول حياته الأخيرة حق.
النهار