في أخطاء بعض المقاربات الملازمة للثورة السورية: عمر قدور
المقارنة بين حال الثورة السورية اليوم وحالها وقت انطلاقها، قد تكون مخيبة لآمال الكثيرين. وقد تكون مؤلمة في بعض مفاصلها؛ هذا واقع ينبغي الاعتراف به والبناء عليه. إن لم يحدث هذا الاعتراف بالواقع فسنجد أنفسنا أمام ثورتين؛ واحدة منهما يقتصر وجودها على الأفكار والمُثُل، من دون أن تتعين على الأرض، وأخرى تسير وفق المقتضيات الظرفية، من دون أن تكون مشدودة بقوة إلى الآفاق الرحبة للثورة.
لقد كان واحداً من أهم انتقاداتنا للنظام أنه يعمد إلى سياسة الإنكار تجاه الثورة، أو أنه منفصل عن الواقع تماماً، ولعل أهم ما يُخشى أن يقع فيه بعض الثوريين هو الانفصال عن الواقع أيضاً، ابتداء من إنكار الوقائع على الأرض كلياً، والذي يتجلى باعتزال الفعل الثوري وتركه للقوى «الأقل تأهيلاً أو مدنية»، تحت ذريعة اليأس من الثورة. ذلك يعني، فيما يعنيه، فهماً خاطئاً لطبيعة النظام وقدراته أولاً، ولطبيعة الثورة ضمن مجتمع لم يكن مهيأً لها على صعيد الوعي العام بقدر ما كان مهيأ لها على صعيد انسداد الأفق، وبخاصة بسبب خزان القهر الذي راح يفيض بما امتلأ به طوال عقود من الاستبداد.
ومع أن أهم الأصوات التي راحت تروّج فكرة خيانة الواقع لمُثُل الثورة هي أصوات لم تكن في الأصل ذات فعالية معروفة فيها، أو أصوات توقفت فعاليتها بحكم الابتعاد الجغرافي عن الواقع، إلا أن ذلك لا يمنع وجود أصوات أكثر فعالية قد تعلن يأسها واعتزالها. في كافة الأحوال، وهي أحوال مبررة على الصعيد الفردي، ثمة ما يُهدر فعلاً بدعوى سرقة الثورة أو تحولها عن مسارها. وفي أغلب الحالات يغيب التساؤل عن الإمكانيات المهدورة التي ساهمت بسلبيتها في إيصال الأمور إلى ما آلت عليه، ما يقتضي في كثير من الأحيان طرح الاستحقاقات الخاطئة واقعياً، والتي يبدو بعضها وجيهاً على المستوى النظري المحض، في إعادةٍ لأولوية الفكر على الواقع والتنصل من التفاعل الحيوي بين الاثنين.
ليس ما آلت إليه الثورة بالحتمي، بالقدر نفسه الذي يمكن وصف هذا المآل بأنه واقعي. ربما، بين هذين الحدين، تقع الممكنات التي تُهدر، والتي يستطيع المعنيون بالثورة استدراك بعض منها، إن كفّوا عن قياس الوقائع من منطق «قياس الشاهد على الغائب»، وهو منطق لا يحتكره المتدينون وحدهم. لذا سيكون مجدياً أكثر الكفُّ عن مقارنة ما حدث فعلاً هنا بما حدث في أمكنة أخرى، والكفّ عن مقارنة ما حدث بما كان ينبغي أن يحدث؛ بعد سنتين ونصف لم يعد جائزاً الإبقاء على الاستسهال الذي يتخلل العديد من المقاربات الخاصة بالثورة، لأنها لم تؤدّ سوى إلى الاغتراب عنها وعن الوضع السوري عموماً.
ثمة شعارات من بداية الثورة راحت تثير السخرية فيما بعد، في طليعتها «الشعب السوري واحد»، لكن هذا الشعار الساذج الذي يحمل من الرغبات أكثر مما يتجسد بالفعل يمكن تفهمه أكثر من المقولات التي تكررت طويلاً عن اجتذاب «الفئة الصامتة» إلى الثورة، لأن المقولة الأخيرة تفترض إلى حد كبير تجريد الفئة الصامتة من امتلاكها لموقف راسخ من الصراع الدائر، وتالياً إمكانية الاشتغال عليها بوسائل الإقناع «اللفظية غالباً» لاستمالتها إلى جانب الثورة. هذه المغالطة تستهين بمَلَكات تلك الفئة العريضة، وغير المتجانسة من حيث الأهواء، فقسم من الفئة الصامتة كان ولا يزال ينتظر معرفة الكفة التي يميل إليها الحسم ليخرج عن صمته، ولن يفعل قبل ربع الساعة الأخيرة. قسم آخر لا يجهر بموالاته للنظام لكنه يدعم النظام بصمت، إما تحت يافطة الحياد أو يافطة النأي بالنفس. أما القسم المغلوب على أمره، والذي لا يملك موقفاً راسخاً لأنه لا يجد نفسه مؤهلاً لذلك، فلم يكن متوقعاً منه أن يتشجع ما لم تحدث تطورات دراماتيكية تجبره على الوقوف في إحدى الضفتين.
ما يثير الاستغراب حقاً هو أولئك الذين قفزوا من جانب فكري إلى آخر بمنتهى الخفة، فجزء معتبر ممن ينظّرون لاستمالة الشعب السوري بأكمله إلى صف الثورة، كضمانة لنجاحها، كان إلى وقت قريب يتبنى مقولات من نوع «الطليعة الثورية»، ويعتبر العمل السياسي السري «النخبوي بطبيعته» سبيلاً إلى الثورة. يتغاضى هؤلاء عن أن الثورات عبر التاريخ قامت بها نسبة من الشعوب تقلّ عن النسبة التي نزلت إلى التظاهرات في سوريا، وهي نسبة كافية لسحب شرعية أي نظام سواء أكان ديكتاتورياً أم منتخباً، ويتغاضون بشكل خاص عن الانقسام المجتمعي الذي يحدد المواقف من الثورة مسبقاً، وهو قد حددها بصرف النظر عن شعاراتها ووسائلها. تحت ستار الانحياز إلى الشعب يجري الانحدار إلى شعبوية مبتذلة، وغير بريئة، لأنها إطلاقية ومستحيلة أيضاً.
انطلق بعض التنظيرات من غيرة معلنة، أو طائفية مستترة، يجتمع طرفاها على الخشية من سنّيّة الثورة، وفي الحالتين غابت الفوارق بين الحامل البشري للثورة والحامل الفكري لها. فالذين نزلوا إلى الساحات والأزقة، ورفعوا الشعارات الوطنية الأولى، كانوا بغالبيتهم العظمى من السنّة وبمشاركةٍ خجولة من نخب وطنية أخرى؛ هذا لا يجرّد الثورة من وطنيتها إلا إذا جُرّد السنة من وطنيتهم، وحينما تُجرد الأكثرية العددية من وطنيتها لا يبقى مجال أصلاً للحديث عن المسألة الوطنية. لقد كان مطلوباً من الثورة إرسال تطمينات إلى الآخرين ليأمنوا جانبها، وفي الترجمة التي لا تُعلن كان بالأحرى مطلوباً من السنة إرسال تطمينات إلى الطوائف الأخرى، لكن الواقع يقول أنْ ما من تطمينات أو تعهدات يمكن إعطاؤها توازي واقع امتلاك السلطة أو وهم امتلاكها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يمنح المستقبل أماناً فعلياً سوى للمشاركين في صنعه، أو المشاركين فيه بعد تحققه، لذا ليس منتظراً أن يطمئن الجميع في حالة الثورة، ولم يحدث أن اطمئن الجميع على مصالحهم في أية ثورة سابقة، ما لم يسقط النظام وتبدأ لغة التسويات بين أطراف الصراع المجتمعي.
يتحاشى السوريون توصيف ثورتهم كحرب أهلية، لأن التوظيف السياسي لهذا الوصف ينال من شرعيتها؛ ذلك لا يمنع من القول بأن أية ثورة هي حرب أهلية بما أن أطراف الصراع هي في الأساس داخلية. قد تتخذ الحرب الأهلية طابعاً دينياً أو طائفياً، هذا هو بالفعل ما يخشاه السوريون، لكنهم لا يملكون ضمانات حياله إذا استمر الصراع طويلاً. إن التخوف من الانزلاق إلى حرب طائفية لا يمنع وقوعها، والاختباء وراء شعارات الوحدة الوطنية من جميع الأطراف لا يحجب الممارسات الطائفية التي وصلت إلى حد التطهير الطائفي في بعض المناطق؛ هذا يرتّب على الجميع الاعتراف بالمشكلة بدلاً من الإعراض عنها، وأيضاً بدلاً من اعتزال الثورة بوصفها أصبحت «حرباً»، لأن أسوأ التصورات اليوم يقل سوءاً عما سيحدث لاحقاً إن لم يبدأ المتضررون بمحاولة عزل العناصر التي تفاقم الطائفية، وعلى رأسها أولاً وثانياً النظام.
سوريا لم تكن مرشحة لثورة ياسمين كما يحلو للبعض؛ النظام الذي قام على العنف، وعلى الإمعان في تغذية العنف الداخلي لدى الجميع، لم يكن منتظراً منه سوى ما فعله وسيفعله. كان لا بد لفائض العنف أن يظهر يوماً في المجتمع أيضاً، ولا سبيل للحد منه إلا بقوننته أولاً؛ ذلك يقتضي تفهم أسبابه العميقة والتخلي عن لغة الحرب إزاءه، لأن لغة الحرب التي يستخدمها بعض المثقفين اليوم معدومة الفعالية ما لم تكن مسنودة بدولة القانون وبزوال بنية النظام المولّدة للعنف.
الثورة هي أن نفهم الواقع وممكناته، وإلا ما نفع التشدق بها؟ مع الواقع ليس ثمة حياد، فإما المشاركة فيه «وفق تصوراتنا لا خارجها» أو اعتزاله؛ يخطئ كثيراً من يحاول أولاً أن يملي عليه شروطه.
المستقبل