في أسباب الحراك الاحتجاجي المجتمعي
عمر كوش
ما حدث في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن منذ أكثر من عام، وما يجري في سوريا منذ أكثر خمسة عشر شهراً، هو تعبير عن رفض السواد الأعظم من شعوب هذه البلدان لاستبداد أنظمتها الحاكمة، وفساد سلطاتها وطغيان أجهزتها الأمنية.
وذلك بعد أن ضاقت ذرعاً بما عانته خلال عقود عديدة من الإذلال والحرمان والإقصاء ، فانتفضت عبر حراك شعبي احتجاجي، بدأ عفوياً، ثم تحول إلى ثورات وطنية، أسقطت الأنظمة الاستبدادية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ولن تتوقف في سوريا قبل بلوغ أهدافها في التغيير والبدء ببناء دولة جديدة.
وفاجأت الثورات العربية مختلف المراقبين والباحثين والسياسيين، كونها جاءت خارج كل التوقعات والتحليلات والتنبؤات في جميع بلدان العالم، سواء في الولايات المتحدة الأمريكية ومعها البلدان الأوروبية أم في البلدان العربية وسواها. لكن الأنظمة العربية الاستبدادية الحاكمة، التي تفاجأت بدورها، لجأت إلى سلوك نهج الإنكار والاستناد إلى نظرية المؤامرة، حيث أنكرت وجود حراك شعبي، وأنكرت معه وجود أزمات وطنية، سياسية واجتماعية واقتصادية، واعتبرت حراك الناس مجرد مؤامرة خارجية، تنفذها مجموعات إرهابية وإجرامية.
وترجع أسباب الاحتجاجات الغاضبة ضد الأنظمة الاستبدادية في الجمهوريات العربية إلى جملة من الأسباب، تراكمت منذ سنوات، بل وعقود طويلة، ولم تلاقِ أية معالجة أو حل. وأفضى التراكم إلى تركة ثقيلة، جسدها التغوّل في القمع ومصادرة الحريات، الفردية والعامة، والاستحواذ على السلطة والثروة، من خلال مندرجات القمع والإذلال والفساد، وأشارت إليها المعدلات المرتفعة للفساد والفقر والأمية، وتدني المستوى المعيشي للغالبية، وضعف دخول أبناء الطبقة الوسطى، والفساد الاقتصادي والإداري المستشري في مختلف مفاصل الدولة، وتزوير الانتخابات، وسطوة الأجهزة الأمنية الاستخباراتية، وتهميش أصحاب الكفاءات والخبرات لصالح أسر الحكام والمقربين من أبناء الأنظمة والمافيات المرتبطة بها.
وقد ضرب الفقر غالبية أبناء المجتمع، بالنظر إلى السياسات والخطط الاقتصادية التي طبقت على مدار عدة عقود من الزمن، وجسدتها سياسات اللبرلة المتوحشة، التي تقدس اقتصاد السوق الحر المنفلت من أية ضوابط والخصخصة المنفلتة، التي نهبت أصول الدولة لصالح رجال الأعمال والمقربين من النظام. وأدى ذلك إلى نشوء اختلالات خطيرة في التوازن الاقتصادي والاجتماعي وانقسام حاد في المجتمعات العربية. وعليه تعددت أسباب الغضب الشعبي، من الفقر إلى البطالة، ومن القمع والكبت والظلم إلى اليأس وانسداد الأفق السياسي، وانتفاء إمكانية الوصول إلى فضاء الحريات والتعددية السياسية الحقيقية والتداول السلمي للسلطة، وبالتالي انتفت البرامج والمشاريع التي يمكنها أن تستجيب لمطالب الناس وتلبي حاجاتهم، وتشدهم إليها.
ولا يمكن التسليم بأن الثورات والانتفاضات في الدول العربية، أو بعضها، كانت بفعل مخططات أجنبية، أو تنفيذاً لأجندات دولية. وخيار الانحياز: إما إلى جهة ثورة تُمكّن المخطط الأجنبي أو إلى جهة إفشال مخطط أجنبي ثمنه إجهاض ثورة، هو خيار افتراضي، وغير واقعي، حيث برهنت الثورات العربية أنها ثورات وطنية قبل كل شيء، ومحركها ووقودها داخلي. هذا لا ينفي إمكانية تدخل الأجنبي في سياق محاولة حرف الثورة عن مسارها أو محاولة احتوائها، لكنها إمكانية لاحقة على قيام الثورة وليست سابقة عليها. وأثبتت التجارب أن السلطات العربية الحاكمة حاولت على الدوام توظيف مسألة التدخل الأجنبي في خدمة تأبيد حكمها. وكانت تستعين بمبرر التدخل الخارجي وتنفيذ المخططات الأجنبية كلما بزر حراك اجتماعي احتجاجي ضد سلطتها، ولم تتوقف يوماً عن تحقيق مآربها السياسية والاقتصادية من خلال الاستعانة بخبرات ومساعدات الأجنبي، لأن المهم بالنسبة إليها هو فرض الاستبداد أياً كانت الوسيلة، وأياً كانت الذريعة واليافطة التي ترفعها.
والافتراض بأن الثورات أو الانتفاضات العربية كانت بفعل مخطط أجنبي، يقود إلى نظرية المؤامرة، التي يلغي دعاتها ومروجيها ما يختزنه الواقع المعاش في البلدان العربية من مشاعر ومكنونات وطاقات، مع أنها كانت تتفجر على مرأى من عيونهم في أشكال مختلفة من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي قمع في أكثر من مناسبة، وكان يتمخض في كل مرّة عن أزمة عاصفة، تثبت وجود قوى حيّة، تنشد التغيير نحو الأفضل، لكن القمع كان أكبر، ومع قمع الحراك الشعبي، كان التسلط يزداد والظلم يكثر.
ويفتقد أصحاب ومروجي نظرية المؤامرة إلى المنهجية اللازمة، ذلك أن النظرة الإيديولوجية هي الغالبة لديهم، وتحجب مفاعيل ومسببات الحراك الشعبي، الأمر الذي يكشف عن عمى إيديولوجي يمنع إمكانية معرفة القوى التي كانت ترفض التغيير والإصلاح، وتحاول الالتفاف على المطالب الشعبية مع كل أزمة وعاصفة تغيير. إن ما حدث منذ نهاية العام 2010، وما يحدث إلى أيامناه هذه، في بلداننا العربية هو احتجاج ورفض شعبي واسع، قادته جماعات الشباب على سياسات ونهج الأنظمة، وعلى الأزمة الاجتماعية العميقة، وعلى التمييز والتهميش والبطالة المقيمة، وعلى الإمعان في الإقصاء والإيغال في مرتع الأزمات والخيبات. لكن الأنظمة المستبدة لم تكن قادرة إلا على القتل والعزل والتفرقة والتمييز والفصل والتهميش، ومع ذلك كان الحراك الاحتجاجي في أكثر من بلد عربي – رغم القمع والقتل الهائل – شديد الطهورية والسلمية إلى حدود غير مألوفة في الحركات الثورية، التي قامت في العالم الحديث، لذلك فالانحياز هو إلى صف الثورات الشعبية العربية، بوصفه موقفاً وطنياً وأخلاقياً وإنسانياً.
كاتب سوري
صحيفة عمان