في أطوار الثورة السوريّة/ حازم صاغيّة
جاء اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي ردّاً من الطور الراهن للثورة السوريّة على طورها الأوّل. فالناشطون الأربعة الذين يُقدّر أنّ خاطفهم “جيش الإسلام”، ابن البارحة، كانوا، منذ اندلاع الثورة، يتفانون في خدمتها بوصفها تطوّراً مدنيّاً وسلميّاً ضخماً، كما في التعريف بها إعلاميّاً وثقافيّاً.
وعلى طريق الانتقال من ذاك الطور إلى هذا، خُطف مدنيّون علويّون وشيعة لبنانيّون وأسقفان وراهبات مسيحيّون وصحافيّون أجانب والأب باولو. كما تنامت على الجنبات ظاهرات تجمع بين الارتزاق الشلليّ الرثّ والراديكاليّة الدينيّة العُصابيّة، وهي راحت تنتقل تدريجاً من الهوامش إلى المتن.
أمّا جسر الانتقال من طور إلى طور فكانت التشكيلات العسكريّة، وأبرزها “الجيش السوريّ الحرّ”، التي أنتجتها عسكرة دُفعت الثورة دفعاً إلى اعتمادها. فوحده الذي يستجيب دعوة المسيح بأن يحوّل الخدّ الأيسر لمن يضربه على الأيمن هو من لا يتعسكر في ظلّ قمع من عيار وحشيّ مارسته السلطة السوريّة ولا تزال. وكما بات معروفاً، لم تكتف الأخيرة بهذه المساهمة في تسميم أعدائها، فأضافت إليها اعتقال ناشطي التنسيقيّات وإطلاق سراح إرهابيّين تكفيريّين من سجونها، أي تعطيل رموز الطور الثوريّ الأوّل وتعظيم رموز الدور الحاليّ. وليس قليل الدلالة أنّ “الجيش الحرّ” نفسه راح يقضمه إسلاميّون مقاتلون بعضهم خرج من جسده ذاته، وبعضهم من خارجه أو من الخارج.
وهذا، في عمومه، يرقى إلى محنة باتت تئنّ تحتها الثورة السوريّة، محنةٍ قد لا تقوم بعدها، مفسحةً المجال لحرب الجميع على الجميع بما يُنهي سوريّة نفسها، لا ثورتها فحسب.
صحيحٌ أنّ الطور الأوّل امتلك بعض السذاجة في تصوّر التغيير وفي تقليله من أهميّة التناقضات الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة في سوريّة. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ تلك السذاجة جزء تكوينيّ من الفكر السياسيّ العربيّ، لا السوريّ وحده، ومن عاداته الراسخة طرد تناقضات الواقع والتربّع، من غير انقطاع، في ممالك الطوبى. والحال أنّ المؤسّسات السياسيّة للثورة، على رغم هزالها وبؤسها، حاولت، بطريقتها السطحيّة، الالتفات إلى المشكلة حين برّزت برهان غليون (المثقّفين) وعبدالباسط سيدا (الأكراد) وجورج صبرا وميشيل كيلو (المسيحيّين) ومنذر ماخوس (العلويّين) ومعاذ الخطيب (سنّة المدن) وأحمد الجربا (العشائر) ومنتهى الأطرش وبسمة قضماني وسهير الأتاسي وسواهنّ (النساء).
وهذا ليس من قبيل البحث عن الأعذار، خصوصاً أنّ وجود التناقضات الهائلة التي طالما تذرّعت بها السلطة لإعدام فكرة التغيير، لا يعني الخلود إلى السكينة وتكتيف الأيدي أمام نظام وُلد في الدم وفي الدم يسبح. ذاك أنّ التكيّف مع العبوديّة، مهما كانت صعوبات التمرّد عليها، ليس اقتراحاً مشرّفاً لأصحابه.
لقد كان كلّ ما في سوريّة، منذ 1963 ولا سيّما منذ 1970، يلحّ على السوريّين أن يثوروا، فثاروا. والأنبياء وحدهم مَن كان يمكنهم أن يتوقّعوا بلوغ درجة القمع التدميريّ ما بلغته. لقد استحضرت ثورات تونس ومصر واليمن، وخصوصاً ليبيا، ردوداً متفاوتة في قسوتها، وكان في وسع واحدنا أن يتوقّع من السلطة السوريّة ما يعادل مجموع القمع الذي تعرّضت له الثورات الأربع المذكورة. أمّا توقّع عشرات أضعاف هذا المجموع فلا يرقى إليه بال.
وبالمعنى نفسه، فالأنبياء وحدهم كان يمكنهم الجزم، خصوصاً بعد ما حدث في ليبيا وبعد بلوغ الكارثة السوريّة ما بلغته، بأن العالم سوف يمضي في صمته الفعليّ حيال سوريّة، من دون الإغفال عن مسؤوليّة قياديّي الثورة في ذلك.
والآن، مع خطف الناشطين الأربعة، يتأكّد كم أنّ صعود الجبل صعب، وكم يستحقّ الإكبار أولئك الأربعة المخطوفون ومن يشبهونهم ممّن يريدون، على رغم كلّ شيء، أن يصلوا إلى القمّة الأعلى.
الحياة