صفحات سوريةعمر قدور

في أنّ لبنان يصبح سورياً/ عمر قدور

 

 

ثمة صورة عن سوريا لدى شريحة كبيرة من اللبنانيين مثار حسد، فبحسب تصورهم كانت قبل الثورة بلد الأمن والأمان، وبلد الوفرة والأسعار الرخيصة. بحسب هذه الصورة، السوريون يتعلمون مجاناً، ويتلقون العلاج مجاناً، وهناك دولة تحتكر السلاح، ولا وجود للطائفية وصراعاتها الذي يعاني منها اللبناني، يبقى أن المخابرات السورية تقمع السوري، الأمر الذي لا بأس في تحمله قياساً إلى المكاسب الأخرى. اللبناني، الناقم على نخبته السياسية بسبب «فسادها»، لا يكترث كثيراً إن واجهته بأرصدة المسؤولين السوريين في الخارج المتحصلة من الفساد، ولا يكترث بحقيقة أن ما يراها إنجازات للنظام هي من أموال السوريين لا من نجاحاته الاقتصادية، ولا يكترث أيضاً بمستوى التعليم المتدني في سوريا قياساً حتى إلى دول الجوار، لذا لا يتفهم قيام السوريين بثورة ضد نظامهم الذي وفّر لهم كل ما سبق، مع أن اللبناني ذاته الذي يسوق كل تلك الحجج سينتفض إذا سألته عما إذا كان يسمح لدركي لبناني بإهانته!

لكن، لندع فرضية تعرض اللبناني للإهانة من دركي لأنها غير واردة كثيراً، ولأنها ليست الأساس في الثقافة التي تجعله يبرر ضمناً لنظام المخابرات السوري وحشيته وقمعه للسوريين، النظام إياه الذي أذاق اللبنانيين الويلات. فالفكرة الأساسية التي يتبناها اللبناني إذ يقايض حرية السوريين بما يعدّه مكتسبات معيشية لهم هي استعداده لمقايضة حريته الشخصية مقابل مكتسبات مماثلة، وهي فكرة أيضاً تبقى في حيز النسبية، وليس التعميم إطلاقاً، لأن تجربة نظام الوصاية أثبتت خضوع شريحة من اللبنانيين لمقتضياته بينما لم يخضع لبنانيون آخرون، وثمة شجعان دفعوا ثمن مواقفهم. مشكلة موالي أو مؤيدي النظام السوري في لبنان ليست في الصورة الخاطئة لديهم عن «الرفاه» الذي كان يغرق في نعيمه السوري، وإنما في آلية التفكير ذاتها، وهي آلية يتشاطرونها مع موالاة النظام من السوريين الذين يسوقون الحجج ذاتها، بل هي الألية التي حكمت السوريين طوال نصف قرن حيث كان إعلام النظام يصوّر أي منجز اقتصادي مهما بلغت تفاهته على أنه أعطية منه.

لننحِّ أيضاً فرضية أن اللبناني يرتضي للسوري ما لا يرتضيه لنفسه، مع ما تحمله من عنصرية ننزّه عنها عموم اللبنانيين. إذ من المرجح أن لدى اللبناني المتحفظ على فكرة الثورة السورية دوافع محض محلية تدفعه إلى تبني «الاستقرار» كمبدأ عام، وهذا أمر مفهوم عطفاً على الخضات الكبرى التي تعرض لها لبنان منذ أربعة عقود حتى الآن. إلا أن نعمة «الاستقرار» هي أيضاً ما دأب النظام السوري على التلويح به ليقارن سوريا ببلدان الجوار، وكان هذا التلويح بمثابة تهديد مبطن بأنه وحده ضمانة الاستقرار في البلد، وبأن أي تهديد له سيدفعه إلى تدمير سوريا وما يطاله نفوذه خارجها وفي الطليعة من ذلك لبنان. وإذا افترضنا وجود شريحة من اللبنانيين لا ترغب، عن حق أو بدونه، في تحمل الآثار الجانبية لانهيار النظام السوري، فذلك لا يستوفي الواقع حقه، لأن الأمر لا يتعلق فقط بمسألة سقوط النظام السوري، بل تعلق من قبل بتهديد فئة لبنانية بتفجير لبنان ما لم يجري الإذعان لمتطلباتها السياسية. اللبناني الخائف من زوال الاستقرار هو على الأرجح محكوم بعقدة السابع من أيار بصفتها محاكاة لجرح الحرب الأهلية القديم، وهو مستعد لتقديم التنازلات خوفاً من الأسوأ، تماماً مثلما كان على السوري طوال عقود تقديم التنازلات تحت التهديد بالأسوأ.

ثمة شعور عام بالإحباط واليأس لدى اللبنانيين يمكن فهمه بناء على تعرجات الوضع اللبناني نفسه، ولعل من المفارقات التي تؤكد على خصوصية الوضع اللبناني أن تُرفع في بعض أحياء بيروت لافتات تقول «الشعب يريد انتخاب الرئيس»، في الوقت الذي لا تزال فيه شعوب الجوار ترفع مطالب مغايرة كلياً. لكن عدم انتخاب الرئيس للأسباب المعروفة لم يؤدِّ إلى تحرك شعبي يُذكر ضد من يعرقل انتخابه، وفي بلد يُعرف نظرياً بأنه بلد الحريات تنعدم واقعياً إمكانية تحويل النقمة الشعبية إلى فعل سياسي مؤثر، واللافت للانتباه أن الجميع تقريباً يعي الحدود المرسومة سلفاً لأي تحرك، ويعي تالياً انعدام وزنه، أي يكرس عملياً فكرة اللاجدوى واليأس من التغيير. هذه أيضاً فكرة قد يكون السوريون أكثر من اختبرها تحت قمع النظام، وحاولوا التغلب عليها بالثورة، ومنذ انطلاقة الأخيرة دأبت قوى محلية وخارجية على محاولة إرجاعهم إلى ما كانوا عليه، أو للوصول إلى القناعة التي يقول لبنانيون أنهم وصلوا إليها بعد تجربة مريرة.

ليس شأناً عارضاً أن النظام السوري تحكم بلبنان طوال عقود، فلهذا آثاره المباشرة وغير المباشرة على الوضع اللبناني برمته. في الآثار المباشرة، يعلم اللبنانيون جميعاً كيف عمل نظام الوصاية على تغليب فئات لبنانية على فئات أخرى، وكيف أن هذه الغلبة تبقي نار الحرب الأهلية مشتعلة تحت رمادها. الواقع المباشر الذي أرساه النظام السوري لا يزال متحكماً في مفاصل الدولة، وأهم تأثيراته دفع البلد برمته إلى حالة الاستعصاء والشلل التامين، بل أسوأ ما في الأمر أن تصبح حالة الشلل مقبولة قياساً إلى مواجهة لا يحتمل اللبناني آثارها. إننا نعود هنا إلى فلسفة النظام التي طبقها في سوريا أيضاً، فسوريا وضعت تحت ما يشبه الموت السريري سياسياً من قبل النظام نفسه، وكان الكثيرون، حتى من معارضي النظام، يخشون قيامة «المريض المشلول» على نحو يحطم فيه «البيت» برمته. ما هو أسوأ من الواقع المباشر، في فلسفة النظام، هو صناعة البديل المرّ وليس التلويح به فحسب، أي أنه يُرسي دعائم ما هو سيء مع دعائم ما هو أسوأ كبديل احتياطي.

اليوم هناك تخوفات لبنانية، ربما يكون جزء منها محقاً، تنصب على أن الوجود السوري الكثيف في لبنان يجعله سورياً على نحو ما، وهي تخوفات منشغلة أصلاً بالعامل الديموغرافي اللبناني وتقسيماته. هذه التخوفات واستغلالها سياسياً أديا إلى موجات من العنصرية هنا وهناك، وأسوأها تلك التي لا تبرر نفسها بالعوامل الاقتصادية والخدمية، وإنما تبحث عن مبرراتها في الخصوصية اللبنانية، وتبني وطنيتها اللبنانية على التضاد والعداء للسوري. الشكل الأخير هو تماماً ابن شرعي لثقافة نظام البعث، لأنه يقيم وطنيته لا على فكرة المواطنة في حد ذاتها وإنما على عداء الآخر، أي أنه يستلهم وطنيته مما يظنه مقلوباً للآخر «البغيض». مصيبة الوطنيات التي تُبنى هكذا أنها تؤدي مباشرة إلى الفاشية، وإذا بدأت الفاشية باستهداف «الأغيار» فإنها لا تتوقف قبل أن تستهدف المواطن نفسه، لأن من طبعها بناء الوطن المزعوم على حساب غالبية أبنائه. الذين يعادون السوري من هذا المنطلق، للمفارقة هم أكثر اللبنانيين سوريّةً بالمعنى المنبوذ الذي يتبنونه عن السوريين؛ المفارقة الكبرى هي في النظر إليهم كلبنانيين متطرفين!

لقد كانت مقولة «شعب واحد في بلدين» التي تبناها وروجها النظام السوري تعني تحديداً ترويع وتطويع اللبنانيين على النحو الذي فعله بالسوريين. التساؤل عن مدى نجاحه ينبغي أن يبدأ من مدى نجاحه في زرع ثقافة الخوف على الجانب اللبناني، والمدى الذي تصله المخاوف من التغيير في وأد فكرة الحرية حتى إذا كانت متاحة قانونياً أو دستورياً. من جهة السوريين، كان لبنان المختلف، الذي لا يشبه سوريا، مطلباً لأنه شكل نافذة أولى للهاربين من نظام البعث. عودة لبنان المختلف الذي أحبه السوريين فيما مضى لا تزال مطلباً أيضاً، لأنها تعني انقضاء ذيول النظام على جانبي الحدود. ببساطة، ليس من مصلحة السوريين أيضاً أن يكونوا مع اللبنانيين شعباً واحداً في بلدين، بالقدر ذاته الذي لا يتمنون فيه أن يكونوا معهم شعبين في بلد واحد.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى