في إدارة القتل
غازي دحمان *
لا شك بأن التوافق على ضبط الصراع السوري ضمن حدود معينة في المكان والتكلفة يعبر عن حالة عجز عن إنهاء هذا الصراع أو التأثير في مستوياته وامتداداته (الداخلية) كما في مآلاته، وهو تواضع من قبل الأطراف التي تدعي التأثير وإقراراً بهذا العجز، سواء تلك الأطراف المؤيدة والداعمة للنظام أو المعادية له، وهو اعتراف منها بأن جل مقدرتها تتوقف على إمكانية ضبط تأثيرات هذا الصراع على البيئة المحيطة، لا من خلال منع تمدده بل من خلال توافقها على اعتبار ذلك أمراً غير مقبول إن حدث.
ثم إن الأزمة باتت تسير على خط فوضى العلاقات الدولية ووفق أعنتها وخضوعها لدينامياتها الداخلية، وأدوار الآخرين لا تتجاوز دور التغذية والإمداد لصراع لن يعدم وسيلة إيجاد البدائل في طريقه لإكمال دورته، ما يجعل هذه الأزمة تشكل ثورة على دستور التفاهمات الدولية والقواعد الحاكمة لأمور المنطقة وسير الأمور بها من سايكس بيكو إلى اتفاقية كامب ديفيد.
لقد حددت العلاقات الدولية هامشاً محدوداً من المناورة في خطوط التماس والتشكيل ضمن هذه المنطقة، فلم يكن مسموحاً مثلاً فتح هذا الهامش كثيراً ليصل إلى مثيله الأفريقي، وكلنا يعرف حجم الجهود التي صرفتها الإدارات الأميركية عقب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 (جولات كيسينجر) وأثناء عملية السلام (جولات كريستوفر)، لضبط سيولة التغيير الجغرافي والسياسي في المنطقة، مع أن الوقائع العسكرية كانت مختلفة. ولو ترك الأمر لموازين القوى لوسعت إسرائيل كثيراً مدى احتلالها.
ما الذي تغير؟، ما زالت الوقائع الجيوإستراتيجية الحاكمة هي ذاتها، النفط وإسرائيل ومشاطأة أوروبا، لكنْ هل أن ما تغير هو فن التفاوض وأدواته وأسلوب إدارة الأزمات؟، أم هل تخلت العلاقات الدولية عن حذرها المعهود وجبنها، وارتدت ثوباً من الجرأة بحيث صارت لديها القدرة على المناورة على تخوم مصالحها، أم هل هي المغامرة الرأسمالية الأدم سميثية (دعه يعمل دعه يمر) حيث السوق هو المعيار والفيصل، ما دامت القضية صراع شركات وكارتلات وأسواق وخطوط نقل وغاز، وهل يمكن تطبيق هذا المبدأ في العلاقات بين الدول، وهل ثمة إمكانية للتجريب والمغامرة بخرائط الجغرافية وبيانات الديموغرافيا؟.
في هذه الغضون ثمة معنى إيجابي آخر تنطوي عليه عملية التوافق على إدارة القتل، ذلك أنها تعني أن الدول الفاعلة وصلت إلى منطلق عملية التفاوض، ووجدت نقطة توافق تنطلق منها باتجاه حل الأزمة. فبالتأكيد من سيضع تفاهمات على عدم امتداد الأزمة سيضطر لإنجاز ذلك إلى تفكيك الأزمة ذاتها، عبر نزع القوة الكامنة في دينامياتها وتحييد أثرها، وإلا فإنه سيبقى دوماً في إطار الفراغ غير المجدي، أو أنه سيضطر إلى نهج مسلك الوضوح في تبني السياسات والتزام النتائج. وحينها فقط لن تبقى أطراف الصراع الداخلية وحدها من يدفع الثمن، حيث ستفيض الخسارة وتعمم على الجميع.
إدارة القتل سمة المرحلة في الحدث السوري، وقد تطول مراوحة الأزمة في ثنايا هذه المرحلة، ولا شك بأن محاولات تفلت حكام دمشق إلى ما وراء الحدود هي صرخات استغاثة من أجل تخفيف الضغط ودفع الآخرين للبحث عن حلول للأزمة.