صفحات الثقافة

في الأربعين/ حسن نصّور

“لا يعرف من أين يأتي لهاثه ولا أين يقيم” – وديع سعادة

حرب

لا أعرف كيف أصوغ التالي: أخال أنها الحرب فعلاً ولو لم تقع. ولا سبيل إلى قولٍ من شأنه التخفيف أو الإيهام بأن الأمور سوف تمرَّر، هكذا، بالتسلية والمزاح والتهكّم على الجدران والإصرار على القول وتكرار ذات الصيغةِ إننا، أفرادا، غير ضالعين في الأمر وأننا ضعفاءُ بلا حول ولا قوّة. نحن كذلك بالفعل، لكنّ لنا يدا طولى في ما يحدث. لقد ساهمت، أنا على الأقلّ، بالنيابة عن نفسي، بتعليقاتٍ هامشيّة مع أصدقاء وصديقات كان يمكنُ تفاديها. وتفاديتُ، لسوء الحظّ، لحظاتٍ مفصليّة وخاطفة كانت مناسِبة، فيما أظنّ، لإشاعة عواطف جيّدة أمام أشخاص يحسنون تقدير الأهوال التي تتلبّس وجوه الآخرين، كالخوف والرغبة والاستسلام لعلاماتِ الجبين المتغضِّن وأوضاع العيون في أوقات لا تتناسق، بالضرورة، مع سير الأحداث خارجاً. مع الحرب.

هوامش

في هذه الأثناء، وأنا أنتظر الحدَث الكارثيّ، أفكّر أنني لم أعرف، طيلة حياتي، شعوراً من شأنه توريط واحدٍ في حيوات أناس آخرين مثل شعور الحاجة الماسّة لكتابة شيء على درجة بالغة من الخصوصيّة. أعني تلك الخصوصية التي قد تنشئ تماساً واضحاً وعميقاً مع هؤلاء، واحداً، واحداً. في هذا السياق، تتكوّن أشكالٌ عميقة من الانطباعات التي تخرج عن كونها مع الوقت ومع الانكشاف أمام الذات حدوداً مع الآخر. قد تغدو، والحال كذلك، باعثاً أصليّاً وحميماً يصير معه تشابك الأيدي ونزيفُ الأكتاف المرهَقة بداهةً، حتى وإن ظلّت الحاجة لهذا النوع من الكتابة صورةً في رأسٍ حزينٍ منفصل عن الواقع المعاش.

نظرياً، تصبح الورطة مضاعفةُ حين يمرّ الوقت ولا تقنع أحداً، أن هذا الشعور المزمنَ لا يجلب خلاصا بوجه من الوجوه المتعارف عليها. فلا يدفع، على سبيل المثال، فرداً بعينه للمخاطرة وبذل الجهد في بلوغ مشقّة ما وراء القصّة، صوب الفناء اللامرئي لمعاينة الشخوص على حقيقتها. ولا يدفع هذا الشعور أيضا، بطبيعة الحال، كاتب هذه السطور إلى مزاولة مهن الحياة الكاملة فيبقى على حاله ونمطه المعتاد ساهما في عمليات مترابطة لقياس قدرته على توريط نفسه أكثر فأكثر في تجريب الألفاظ الثمينة الواسعة الشهرة، ثم إعادة تجريبها بطرق وأساليب أخرى. ألفاظ حميمة تبدو عادية ومألوفة في الظاهر لكنها تستبطن، في الغالب، مكامن قد تجعلها، فجأة، على قدر كبير من الغرابة.

في الأربعين

بكل هدوء، بلغت الأربعين بطريق الغفلة. صارت لي صورة مشطورة الوجه. صورة غير صالحة للاستخدام على نحو شائع إلا فيما يرتبط بنوباتِ القلق الفادح من التلاشي في أفياء هجينة لا ترقى إلى فيءِ صانعة الصورة القديرة. صارت لي ألفاظ غامضة تحجبُ الآخرين عما يدور داخل الرأس. صارت لي أدواتٌ متكاملة للكآبة وأذوناتٌ محدودة للتحدّث عن الخريف من خارج السياق مع أشخاص هم أيضا خارج سياق العيش الأصليّ. صارت لي حكمة المهزوم الساكن. صارت لي، أنا الميت، مِيتة، فريدة من نوعها، بعلاماتٍ موقوتةٍ. أما رائحة الحبيبة المعجونة بسحابة الله فقد غرقتْ ندباتٍ بنّيةً رطيبةً في المعاصم والأرساغ.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى