صفحات الناس

في البدء كان الجدار وكانت الكلمة/ عباس علي موسى

 

 

أقدمَ محاولات الكتابة كانت على الجدران، الجدارُ هو الفاصلُ بينكَ وبين الآخر، بينك وبين الشارع، بين أسرارك العائلية وفضائحية الخارج، بين سرّك وعلانيتك، بين تلفازك يبثُّ عنك ما تخافه، وبين الآخر خائفاً مثلكَ.

الجدار حامٍ، لكنّه يحتفظ بخوفك خلفه، يتذكّر الجميع عبارة درجت في لا وعيهم (الحيطان لها آذان)، لقد تعمّق الخوف حتى بلغ إلى ما خلف الجدار، إنّ جداركَ ليس ملككَ، فأنت لن تستطيعَ أن تكتب عليه شيئاً تحبه أو تؤمن به، سيسمحون لكَ بكتابة جملة وحيدة (الدار برسم البيع)، مع كلّ ما بداخله من خوف.

منذ أن وعى إنساننا الحياة، وهو يرى الجدران ذاتها ملونة، فجدران مدرسته ملوّنة بعبارات لن يفهمها، يخيّل إلى المرء واعياً كم هناك من إجحافٍ وإسفاف بحق الجانب الشعري والجميل من اللغة. فكلمة جميلة ككلمة «زهر» مع كلّ اشتقاقاتها وصيغها الزمنية من «ازدهار» و»تزدهر» «مزدهرة» كانت من نصيب جدران المدارس، عن فكرة البعث التي تتبرعم في داخل الأطفال، وتزهر وتزدهر في حياتهم كحبة الفاصولياء العجيبة.

على الجدران العامة لم يجرؤ أحدٌ على وضع ملصقٍ عما يدور في داخله، إلاّ ملصقات النعوات. كانت الكتابات على جدران مؤسسات الدولة والمدارس والمعاهد والجامعات، منمقة بالتزلف إلى الفكرة الواحدة وللقائد الفرد.

وعلى الجدران أتذكر عبارة مكتوبة إلى الآن، لا أدري إن كانت بصباغ أسود (انتخبوا مرشحكم من الفئة ب عبد الرحمن آلوجي) منذ التسعينيات (هي الدورة التي شارك فيها الكرد، والتي خذلهم فيها البعث، عبر قائمة الظلّ). لا أعرف لمَ لمْ يقُم أحد بمسحها عن الجدران. لقد حفظت إحداها على أحد جدران مدينتي «تربسبييه»، وإحداها في مدينة «تل معروف» (الوجه الآخر من الإسفاف لكن ليس القومجي والبعثي بل الديني)، (المدينتان تقعان إلى الشرق من مدينة قامشلي في الشمال الشرقي من البلاد).

كانت الجدران إحدى الوسائل المهمة في سلسلة الأدوات الترويجية للفكرة الواحدة والرسالة الواحدة، فمن مرّ بهذه البلاد إن كان سائحاً، أو استخباراتياً، أو زائراً ستنطبعُ في مخيلته إحدى تلك العبارات الرنانة: للسيد الرئيس؛ الرياضي الأول، والدكتور الأول، وملهم الأجيال، والعابر بها إلى الغد الجميل البعيد!

من يتتبع تلك الجدران الواسعة سيجدُ عليها ذكريات عن مستقبل لن يأتي، وعن براعم وطلائع البعث الذين سيحملون الرسالة ذات المضمون الخالد.

من يحرّر الجدران / مدينة هيشون الملوّنة

من يستطيع أن يتذكر أوّل جدار تحرر في حياته؟ لا أعرفُ إن كان «مارك» واعياً للجدار الذي أطلقه في صفحة الفيس بوك، هل وعى كم أنّ الجدران كانت مهمّشة في حياتنا! فهو الجزء الذي تملكه من الداخل لتعليق الثياب والصور الكئيبة لأناسٍ رحلوا عن الحياة، ولا تملكه من الخارج إلا بمقدار جملة وحيدة (الدار/ الجدار برسم البيع) وكأنّه بيع لتلك المساحة المعتَقلة من ممتلكاتك.

جدار فيس بوك هو من أكثر الجدران تحرّراً، حيثُ كتب عليها كلّ ما حرمنا منه طيلة عقود.

أحسبُ أنّ من أوائل من حررّ الجدران من التسلط البعثيّ، كان الرجل البخاخ، الفكرة للكاتب السوري «عدنان الزراعي» مُلهماً بذلك الشباب لاستخدام البخاخات الملونة لأغراض مناهضة السلطة.

أحسبُ أيضاً أنّ مدينة هيشون (تشكيلي وأديب سوري توفي في بداية تحرّر الجدران أواخر2011) هي نموذج صارخٌ للمدن المنتفضة. قصته كانت معنونة بـ»المدينة الملونة» يسرد فيها حكايةَ مجموعة من الشباب يكتبون على الجدران عبارات معارضة ومناهضة للسلطة، فتعمد البلدية – بإيعاز من رجال الأمن – إلى صباغ مماثل لتلك المكتوبة بها تلك العبارات فيطلون بها الجدار، إلاّ أنّ الحالة التي تتكرر على أكثر من جدار وبأكثر من لون، وسعي البلدية إلى الطريقة ذاتها في مسحها يؤدي إلى جدران ملونة، فتغدو جدران المدينة كلوحات تشكيلية، تحملُ معها فكرة صارخة عمّا تخبّئها خلفها. فطبقات الألوان تحملُ بذرة الانتفاضة، وربّما تشيرُ أيضاً إلى فكرة الانتفاضة المختبئة خلف اللوحات التي رسمها الفنانون السوريون الحالمون بالحرية.

الجدران ثيمة التسلّط

المحافظة على الجدران سليمة من الشوائب المعارضة للسلطة، هي عُرفٌ حافظت عليه السلطة، من أجل ذلك، انتفضت السلطة مذعورة إبان الكتابة على جدران درعا؛ المدينة التي انتفضت على إثر الحادثة من دون أن يعوا تماماً أنّ للجدران ذلك الذنب، وأن تكفير الذنب قد يكون بعقاب أطفالهم أيّما عقاب. السلطة الأمنية تعي تماماً ماذا يعنيه خروج الجدران عن سيطرتها.

السيطرة على الجدران هي تسلط على الجانب المخذول من شخصية المواطن، وإمعانٌ في تدجينه، لذا لم يجرؤ أحدٌ على تجاوز فراغ الجدار. وإذا ما راقبت الجدران لن ترى إلا أشياء متشابهة (الدار برسم البيع، حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً(مع شجرة نخيل)، أو إعلانات لمحال تجارية وأحذية وخوف. وعلى جدران المدارس لم يكن ثمة إلاّ التمجيد لما سلف والإشادة بالخلف والرضى عما هو آتٍ.

في بداية خروج المظاهرات في سوريا عمدت هذه إلى الجدران فكان أطفال درعا السبّاقين إلى الكتابة على جدران مدارسهم فحرّروا جدران مدرستهم. ربما لأجل ذلك كان العقاب وخيماً. فالذي أمعن في عقابهم أدرك ما الذي تعنيه خروج الجدران عن سلطته. ثمّ كانت الكتابة على الجدران الثيمة الأساس لخروج حيّ ما عن الطوق. كانت الجدران تشهدُ حركة انتفاضة البلاد، فانتشرت الكتابة على الجدران كانتشار النار في الهشيم، من أقصى «درعا» إلى أقصى «ديريك»، كلها كانت رسائل مفكوكة الشيفرات إلى السلطة عن خروج الجدران عن سلطته، لذا عمدت إلى إصدار قوانين للحدّ من تحرر الجدران، من طريفها أن فرضت غرامة مالية كبيرة على من يكون مكتوباً على جداره، وأن من لا يمسح ما هو مكتوب على جداره بيده سيثقبون جداره. هنا أتذكّر جيّدا كيف أن أحد الجيران في حي باب توما في المدينة القديمة، استيقظ باكراً ليفتح حانوته الدمشقي، وإذا به وقد كتبت عليه شتى أنواع العبارات المناهضة للسلطة، فما كان منه إلا وقد همّ مذعوراً بعلبة دهان بيضاء يمسح تلك العبارات، حتى أعاد الأمان إلى جداره (تنام الجدران خانعة مستكينة حتى يَحزها أحدهم ويشِمَها بالثورة على سكونها).

وفي المساءات, كان شباب الثورة يحرّرون الجدران ويوثقونها بكاميراتهم الجوّالة، ويبثّونها في شرائط اليوتيوب الحمراء (ها قد حررنا جداراً آخر). وكردّ على انتفاضة الجدران تقوم السلطة بزرع الجدران بالحريق (الأسد أو نحرق البلد). وفي مناطق المواجهات المسلحة في ما بعد (حين خرجت الثورة عن الكتابة إلى الرصاص)، كان الحريق وكان الدمار وعلى آثار الدمار وأطلال المدن كُتب بخطوط فوضوية (من هنا مرّ جنود الأسد) وهي خاوية على عروشها.

عندما سيطرت الكتائب الإسلامية على بعض المدن في سوريا، عمدت بادئ ذي بدء إلى تملّك الجدران وزرع السلطة الجديدة فيها، فقاموا وبخطوط أنيقة ببثّ منهجهم في حكمهم «الرشيد« بالكتابات البيضاء على خلفيات سوداء. كان ذلك إيذاناً بلبوس الخلافة على جسد الجدران المرتدة الكافرة، وإكساءً لعوراتها!

(من يتسلّط على الجدران يتسلط على الحكم)، سيناريو مقتضب لجدراننا

هناك في مناطق «روجآفا» في الشمال الشرقي من البلاد، أكثرُ الجدران إشكالاً. مشهد ليلي معتم / شارع (شوارع)، المكان: مدينة قامشلي ربّما. يمشي أحدهم في الشارع فيما الكاميرا تتسقّط ما تتلقّفه شبكيته، وإن على عجل لتختزن الصور، فيُسقِط عليها الضوء بعد ذلك فتصير شريطاً لفيلم. عيناهُ شباكٌ والجدران تعبير كاملٌ عن سؤالٍ يدور في خلده/نا، بالتداخل ذاته والإشكال ذاته، حيثُ كلٌّ يرجئ التفكير في كلّ هذه الكتابة وإن خضّت ما بداخله.

(الدار برسم البيع)، (مذبح فراس للفروج، حي ومذبوح)، (Azadî)، (يا حمص نحنا معاكي للموت)، (اليد المنتجة هي اليد العليا في دولة البعث)، (انتخبوا مرشحكم المستقل من الفئة ب عبد الرحمن آلوجي)، (العنف ضدّ المرأة، عنف ضد الإنسانية)، (YPG YPJ تحميني)، (احذر القنّاص الكردي)، (البيشمركا والكريلا تحميني)، (كتائب البعث قادمة)، (خندق الخيانة)، وعلى جدار المنزل الذي استأجرته بما عليه من كتابة (ارحل الطفل البخاخ).

وفي مروري من أحد القرى قريباً من نهر دجلة العظيم، ثمة مدرسة نموذجية لا تزال الكتابات ذاتها التي بهتت أمام الشمس، كتابات البعث في عهده المجيد مرسومة على الجدران بخط واضح وأنيق. لم يمسحها أحد، ولم يسجّل عليها أحد شيئاً آخر، سوى ذكريات بعض الصبية (ذكرى أبو دلو) وإلى جوار الاسم قلب مجروح بسهم. والكتابات تلك قد بهتت في الشمس الحارقة والأمطار تتناوب عليها الفصول، ربما لم تخلق تلك العبارات في نفوس القرويين شيئاً، لربما كانوا يحسّون دوماً أنها لا تعنيهم بمقدار ما يحسّون بأنها تخصُّ أناساً آخرين/غرباء عنهم، وبأيديهم تُدار البلاد والحدود.

مشهد نهاري / في الشارع

أطفال يلعبون كرة القدم ويتخذون من الجدران مرمى لهم، لا يهمهم كثيراً ما هو مكتوبٌ على الجدار بقدر ما يهمهم أن يقذفوا الكرة أبعد إلى هناك في المرمى ولترتطم بكتابة/ سلطة أحدهم، ربما في أحلامهم أن لا ترتطم كرتهم بجدار إذ يقذفونها صوب الهدف/ الجدار.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى