في “الثكنة” السورية للإذاعة والتلفزيون
لما الخضراء – كمال جمال بك
صدم الصحافيون الغربيون عندما وصفنا مبنى “الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون” في سوريا بالثكنة العسكرية، في حديث عاجل ضمن بيان الانشقاق، فرأينا أن يعرف العالم كيف يقطع الإعلامي منا المسافة الفاصلة بين الشارع في ساحة الأمويين والبناء المستور بجدار عازل، نحو مكتبه، ليحكي للعالم بعدها عن “الحقيقة”!
عقب 15 آذار 2011، تحولت الهيئة إلى ثكنة عسكرية، بدءاً من ساحة الأمويين وصولاً إلى سطح المبنى. وفي تفاصيل المشهد الذي كنا نعيشه، سلاسل وأعمدة معدنية باتت جزءاً من حديقة الساحة بالمبنى، وعلى أطرافها متاريس ترابية مدعمة، لكل متراس منها دورية مدججة بالأسلحة.
ما إن تأتي خطوتك الأولى في “حرم الهيئة” حتى يستقبلك عنصر الحرس بوجه مكفهر، يفتش أغراضك “حرصاً على سلامتك”، وعندما يعجز عن الرؤية في الظلام، يسألك مستنكراً كأنك تلكأت في أداء واجباتك: “شو أستاذ ما معك بيل ولا ضو قداحة؟” فتقول: “لا والله”… فيرمقك غالباً بنظرة تشعر معها بالتقصير لأنك نسيت أن تستكمل مستلزمات تفتيشك الشخصي! وفي منتصف الحديقة، وبدلاً من شجرة نخيل، زرعت مظلة كتلك المتوافرة في المسابح، وعلى رأسها جهاز لاسلكي طويل يدور كلما مرّ أحدنا… وفجأة، نزعت المظلة وزرع مكانها عنصر أمن يستدير باتجاهنا بالجهاز اللاسلكي الذي بقينا لا نعرف وظيفته، وإن خمّنا أنه يقتفي أثر المعدن في أجسامنا “والله أعلم”.
وكتمثالين لتنينين حجريين، يتسمر عنصرا أمن بكامل أسلحتهما خلف متراس حديدي، أمام المدخل الرئيسي للسور، والمتراس مموه بألوان علم النظام. مهمتهما النهارية التفتيش والسؤال عن الإسم والبطاقة ومكان العمل، حتى لمن كان عمرهم المهني وحده، وتاريخ دخولهم الهيئة، أكبر بسنوات من عمر السائل. وفي ساعات الدوام الليلي أنيطت بهذين العنصرين مهمة التحقيق العاجل، فيسألان العاملين في الهيئة عن القسم المفترض أنهم تابعون له وموعد انتهاء عملهم… ومع مرور الأيام، أنيطت المهمة بالعاملين أنفسهم، إذ عليهم الإبلاغ عن أنفسهم، بملء قائمة تدوّن فيها البيانات المطلوبة بخط اليد. وعندما سألنا عن معنى هذا الإجراء، طمأنوننا بالقول: “ما في شي، إجراء عادي بس منشان إذا صار شي بالهيئة نعرف مين مات ومين عاش”… فاطمأنينا!
وعلى مسافة مترين من “العنصرين التنينين”، غرفتان متقابلتان لمناوبة عدد من قادة العناصر الأمنية، الذين تولوا مع مطلع السنة الثانية للثورة، مهام إبلاغ “المغضوب عليهم” من العاملين، شفاهة أو كتابة، باستدعائهم من قبل الأجهزة الأمنية، أو إعتقالهم وإرسالهم إلى تلك الأجهزة، قبل أن يُسرّوا للمعتقلين المحتملين بأن تعاونهم مع رؤساء المفارز الأمنية ونقل الأحاديث التي تدور حولهم قد تزكيهم لدى هؤلاء بالإعفاء من الإستدعاء إلى الفروع الأمنية.
وتعود أصول هذه العناصر الأمنية إلى سَرية المداهمة – فرع الأمن العسكري 215، الذي كان تابعاً للواء آصف شوكت، قبل أن يرثه العميد محمد شفيق مصة.
وفي ظاهرة اختلف الزملاء في تفسيرها، جرى تغيير مفاجئ لبعض عناصر الحراسات وقادة مفارزهم، فأتى أشخاص أكثر تجهماً، قيل إنهم تابعون للحرس الجمهوري، فرأى بعضنا أن هذا يعكس نقص الثقة في أي فريق لحراسة المبنى إلا هؤلاء، فيما عزا بعضنا ذلك إلى تقلص الأعداد في سرية المداهمة، خصوصاً بعدما سمعنا عدداً من العناصر يشتم ويسب ويلعن ويتوعد وينفخ في وجوهنا لأن قسماً من العناصر السابقين في الحراسة ممن نقلوا الى مراكز أخرى قتلوا في محافظات سورية كدرعا وحمص، خلال مواجهات وهجمات هناك.
ممر قصير تقطعه بخطوات ثلاث، من غرفتي الحراسة نحو غرفة تفتيش: آلية للحقائب والأغراض الشخصية، ويدوية يقوم بها حارس أمن وإلى جانبه حارسة أنثى، فيمرران أيديهما على اجسامنا، كل بحسب اختصاصه، طبطبة ومسحاص، من الكتفين إلى الكاحلين، بعد إفراغ جيوبنا، لنمر بعد ذلك عبر بوابة إلكترونية مزودة بأجراس إنذار وأضواء حمراء. ووسط هذه الاجراءات كلها، طُرح سؤال لم ينل إجابة شافية، عن صدقية تفجير غرفة مهجورة في الطابق الثالث للمبنى، صبيحة انتشار أنباء عن انشقاق رئيس الوزراء آنذاك رياض حجاب: فمن كان وراء التفجير؟ وهل أدخلت المتفجرات إلى المبنى بإلباسها قبعة إخفاء؟!
في عجالة، تلملم أجزاءك المبعثرة تفتيشاً، وتمسك قبضة باب الخروجن فتصطدم عيناك بما ينتهك روحك، هناك في الحديقة خلف السور على ضفة بردى، حيث صارت الغرف الصغيرة المتلاصقة مرتعاً للشبيحة ومراكز لتجمعاتهم. وبين الرصيف الطويل، وما يسمى باب الوزير، فهمنا للمرة الأولى معنى كلمة شبيحة التي حكى عنها أبناء درعا – مهد الثورة، فلا يفهم العالم ما يقولون.
في ذلك البرزخ المكاني للهيئة، فهمنا كل تلونات الشبيحة وتبدلاتهم، على مر الأيام، من اللباس الى السلاح. رأينا بأم العين كيف يتجمع هؤلاء، وهم من فئات عمرية لا ناظم لها، بألبسة ظلت تتبدل في بداية الثورة، من المدني إلى الأسود الى الكاكي إلى المموه. فقد حرص النظام على تغيير أزياء هؤلاء كلما وجد الشعب السوري ناظماً يربطهم، فبدل حتى أحذيتهم الرياضية البيضاء بأخرى سوداء ثم إلى جزمات عسكرية.
وقبل أحداث قرية البيضا في بانياس، رأينا الشبيحة في فناء الهيئة يرتدون الملابس ذاتها التي حرص إعلام النظام على إلصاقها بالبشمركة، بحجة أن “جنوده البواسل” لايرتدون هذا الزي.
وعلى الجسر المؤدي إلى باب المبنى، تتسارع الخطوات، فينفتح الباب الرئيس على صورة لرأس النظام، خلف نصف دائرة خشبية كانت موقفاَ لموظف برتبة مستخدم مهمته ضغط زر المصعد للمدير العام، والترحيب به والدعاء له عند الدخول والخروج، وإعاقة كل من يحاول مرافقته، إلا من يُسمح له بإشارة من السيد المدير. وصارت هذه الغرفة، بعد انطلاق الثورة، متراساً لحارس الصورة، معززاً ببندقية روسية تطل برأسها من فوق الحاجز الخشبي وما خفي تحته كان أعظم.
صعودا ونزولا على درجات المبنى، أو في المصعد الرئيس أو مصعد البوفيه، وفي الممرات، صار منظر العناصر المدججين بالأسلحة جزءا إعتيادياً من المشهد اليومي الإعلامي. وفي كل طابق من المبنى، استحدثت غرفة يتمركز فيها مسلحون، وإلى جانبهم عاملون في الهيئة أدرجت أسماؤهم وأسماء مذيعين ومحرري أخبار وفنيين ورؤساء أقسام ودوائر، في قوائم تحت بند المناوبة الليلية.
أما على سطح المبنى فيتمترس قناصة، في غرف إسمنتية أو خلف أكياس رملية. وهناك، على السطح أيضاً، استديو “مجهول الوظيفة”، كان رواده الوحيدون “خبراء إيرانيين”، يرطنون بالفارسية، ومعهم مترجم وحرّاس، وذلك في توقيت تزامن مع عمليات تشويش على بث فضائيات “معادية”.
هكذا كان باب الدخول الرسمي للنطق بالشهادة الإعلامية. فكنا في ذلك الطريق ننطق بالشهادتين، ونستعد كمن “يأكل لحم أخيه ميتاً” لشهادة الزور.
المدن