في الرواية الشعبية عن «سرّ» العلاقة بين سورية وإيران
براء موسى
فتحت الثورة السوريّة الباب على مصراعيه على سؤال يحيّر العقول: ما سرّ تلك العلاقة بين النظام الأسدي في سورية والملالي المغتصبين لعراقة الشـعب الـفارسي؟ ويـدّعي الأول أنه علماني، بينـما يصرّح الآخر بإسلاميّته بـشـدّة؟ كيف يـستـقيم ذلـك من حـيث المـبدأ؟ ومـن الناحية الاقتصادية كيف تركت سورية تحالفات مهمّة مع الدول الخليجية لمصلحة أعدائها التقليديين؟ وكيف كانت قناعة الشارع السوري بأنّ هذا التحالف المشؤوم مع ايران من إبداعات وذكاء «القائد الخالد» باني سورية الحديثة؟
ما ظهر جليّاً على مستوى القاعدة الشعبيّة في التفسير لهذا «الخبل» التاريخي هو أنّنا لا نكاد أن نحصل سوى على إجابة واحدة بكلّ أسف، ألا وهي طائفيّة النظام السوري المنتمي الى المرجعيّة الشيعيّة في النهاية. وأمّا ما كان على صعيد النخب اليساريّة والبعثيّة معاً فإنّ سببه عائد إلى العداء التاريخيّ للإمبرياليّة العالمية بزعامة أميركا، والتي يتحكّم بها اللوبي الصهيوني في ما يخصّ المنطقة. والسبب الآخر الذي بات مخجلاً هو الامتداد الايرانيّ في لبنان بذريعة المقاومة والممانعة.
الذاكرة الشعبيّة تتذكر كيف وقف نظام الراحل الأب موقفاً حياديّاً من الحرب العراقيّة – الإيرانية، بل انحاز إلى إيران «سرّاً وضمنيّاً» مع أنّ دمشق «قلب العروبة النابض» حيث يفترض الوقوف مع العراق العربيّ كأحد أساسات التنظير البعثي، ولكن لم يكن خافياً صراع «البعثين» على زعامة «الأمة العربية» كخلفاء «راشدين» للراحل جمال عبد الناصر «أبي العروبة»، والدسائس المحاكة بين «البعثين» أكثر من أن تحصى.
بعد ذلك منحت الأقدار (أو أميركا) للنظام الأسدي الحرب الخليجيّة الثانية في احتلال صدّام للكويت، فكان أن اشترى الراحل تذكرة جديدة لإطالة رحلته «الأبديّة» في العرش السوري، وكان لحكمته الاستراتيجيّة تلك، صدى في الشارع السوري كتتويج لرأيه الصائب في انحيازه التاريخي إلى إيران الفارسيّة على حساب الخليج الذي «باع نفسه للغرب».
في الواقع، تلك الذاكرة الشعبيّة في ثرثراتها الكثيرة، الباحثة عن تحليل يفـسّر هـمجـيّة الـنظام ووحشـيته، كان أن ربـطت في بعض إرهاصاتها العلاقة السوريّة – الإيرانيّة بالعودة إلى التاريخ الذي أثراه الإسلام السنّي في أدبيّاته المتنوعة حول مرجعيّة الحكم العلويّ (كما يـطلقون عليه) بالعودة الى الكتب الـتراثيّة التي في مـعظـمها تـكفّر تـلك الفـئة «الباطـنيّة الـضـالّـة».
ومــن ثم اخـتلـطـت الأوراق بـين تحـديد مـرجعيّات لـتـلـك الهمجيّة الوحشـيّة بربطها مع حوادث تاريـخيّة، فكـانـت على سـبـيل الـمثـال شـخصـيّة «شيخ الجبل» سنان الدين راشـد في جـبال الـعلوييـن، الإرهابي الذي كان يرسل الفدائيين- الانـتحاريين لـيلـقي الروع في قلوب الخلفاء والسلاطين، وأكثر ما ظهر ذلك في الشــق الشـامي فـي عـهد صـلاح الـدين الأيـوبـي مـحـرر القـدس من الصليبيين الذين تحالفوا أحياناً مع «شيخ الجبل» في صفقات مريبة ضد المسلمين. و «شيخ الجبل» هذا يرتبط عضوياً بـحـسن الصباح، مؤسـس فـرق «الحـشـّاشـيـن» كـمـا أطلـق عليـهم في بـعض المصـادر الـعربـية وغـيـرهـا، والـذي استـولى على قـلعـة آلـموت فـي إيـران الـحـالـية، وكان المؤسس الأوّل لفكرة الانتحاريين وتنفيذها.
بالطبع، نذكّر بأنّنا نتحدث عن الذاكرة الشعـبية وليس عن البحوث التاريخيّة، في ما خصّ انتماء هـذين الرجلين، «شيخ الجبل» في جبال العلويين وفق التسـمية الحديثة (منطقة مصياف وقـلعتها الشـهيرة وما حولها)، وحسن الصباح الفارسي مؤسـس المذهب، إلى المذهب الإسماعيلي، مع الاختلاف بذلك عن عموم المذهب الشيعي الإثني عشريّ.
النـقـطـة الجــوهريـة بصـرف الـنـظـر عن أخـطـاء الـربـط والخـلط، وتـحديـد المرجـعيّات، هـي أنّ الـشارع الســنّي الـسوري في شكل عام، يقبل هذه التحليلات من دون تمحيصها في ظلّ هذا الولاء الأعمى لأنصار الوريث الحاليّ القائم على هرم القتل والترويع الحاصل، وفقط من هذه الزاوية من دون المقارنات الأخرى الجديرة بالبحث الشامل.
وثمة وجه آخر لهذا التقبّل هو: تاريخ الاغتيالات الشديدة التعقيد والغموض طوال عقود «البعث»، بل أحياناً قبل تسلّمه السلطة في البلاد.
وجها التشبيه شعبيّاً هما عنصران مقتطعان فقط من التاريخ القديم والحديث في البحث الدؤوب عن هذا الرابط السحري بين إيران وسورية حاليّاً، بل ودفاع إيران المستميت عن رجلها في الشام.
ووجها الشبه هنا، الحقد والولاء: الحقد حيث لا تفسير لطرائق الموت التي يبتدعها النظام لشعب يفترض أنّه تناسى أحقاده، حتّى الحديثة منها، والولاء الكلّي لضبّاط الأسد له، ولشراسته في الاحتفاظ بالسلطة، أقلّه في دائرة القرار والتنفيذ الوحشي للانتقام من كلّ من سوّلت له نفسه استنشاق هواء الحريّة دون الحذاء العسكري- الأمني المريع.
هذه المراجعة لا تفيد سوى في تصوير جزء من واقع حال نراه ونعيشه، ويبقى الواقع السياسيّ (في ما لو جازت تسمية «سياسة») أنّ الأمور لا تعني سوى شيء واحد: البقاء ثمّ البقاء ثمّ البقاء
في السلطة.
ومن أحد مـساوئ الحكم الاستبدادي في سورية أنّ تداول مثل هذه البحوث المعنيّة بالنبش كان ممنوعاً وراء ستار الهويّة السوريّة الهشّة، على ما نلمس حاليّاً.
الحياة