في اللغة وسلطة المجتمع/ علي جازو
تبدو اللغة، لغتنا الحياتية المياومة على الأقل، منيعة مجترّة في أكثر من حال، وحالها كحال عُطّال من العمل، في زحمة بلا أفق.
إمّا لأنّ اللغة، الحاجة إلى بذل قوة ما، غير مستعملة ترفل في ثياب مستعملة، أو لأن موادّها الجديدة غير جديدة في شيء قطّ. وفي كلتا الحالين، تتحول وقائعها العابرة إلى زمن غير زمنها المعبِّر. مثالٌ على اللغة حالُ الجسد، الحنين والذاكرة، الرغبة والسؤال. عندما نستعيد مفردات كهذه، لا نتساءل ماذا حلّ بها، هي هي ذاتها، لا معانيها الدارجة!
ثمة تعابير عنيدة، عامة قديمة، ولا تزال قيد الاستعمال الجاري! من بينها مثلاً، «سلطة المجتمع»، أو «التقاليد»، أو «تدوير الزوايا». لعلّ للصحافة شأناً في تثبيت وتعويم لغة محدودة تكاد تتقلّص مفرداتها، وتتحوّل إلى ضيق قاموسي فريد وملغز في آن واحد.
الفضاء المحيط بتلك التعابير أضحى أوسع من دلالتها المتداولة لعقود مديدة، ومع ذلك، فإنها تكاد تمتصّ هذا الفضاء المتوسع حيناً بعد حين، حدّ قدرتها على تقليصه ليغدو مثلها ملتصقاً بها، التصاقَ البرد بأشيائه والتعريف بنموذجه الصَدّ.
تأتي قوتها المطربة من التكرار والمعاودة، في الحين الذي لا تكرر الحوادث المضمومة إليها شيئاً من مضامينها. فاليومي والشائع ليسا يومياً وشائعاً على الدوام، فكيف يتجمّع بيسر وسهولة ما لا يُجمَع ولا يتشابه، في قبضة مغلقة من قبل على كل تشابه؟
البديهة المسلّطة من داخل تعابير كهذه، تجعلها في منأى عن إعادة القراءة، وبالتالي إعادة التحديد، والتساؤل عن جدواها إزاء وقائع تتجاوزها أو على الأقل تفيض عن دلالاتها الثابتة والمستقرة.
لم تعد تلك التعابير معنية بأسباب ولادتها قدر ما هي منتمية إلى عوامل بقائها الواهية. ينفصل المدلول عن الدلالة الحامية انفصال الطفل عن الأمّ، غير أن الضعف غير المساءَل يمنحه قوة جديدة وإضافية، فيبدو فوق الزمن مثله مثل آلهة لم تخسر شيئاً من معجزاتها. لعلّ في الأمر صلة بعلوم اللغة، تلك التي تشهد تراجعاً وتحلّ محلّها علوم الواقع الذي يفضل الاستعمال السريع والجاهز، عوض نحت مفردات جديدة توازي الحركة من دون أن تحجبها، تفكّكها من دون أن تدّعي شمولها ولا إلغاءها.
تعابيرنا القديمة من قبيل المجتمع، السلطة، العادة، والتقليد مثالاً لا حصراً، وسواها الشبيهات بها، أصبحت بلا ظل كما لو أنها بذلك بلا حركة ولا نمو. فما تكون النتيجة إذاً، إنْ كان ما يتحرّك بلا تسمية وبلا صفة، في الوقت الذي تحلّ محلّها تعابير جمّدها الاستعمال المتكاثر، وهو بسبب كثرة استعماله فقد القدرة على التنقّل من طور التعريف المرافق إلى حال الحركة الموازية.
حتى الغناء يبدو في حالٍ خامّ، إيقاعه ترجيع في وحلٍ آنيّ أو توسّل بالماضي الجنينيّ، ومثلهما غير بعيد حالات غير قليلة عن الشّعر والرقص والتشكيل.
يبقى القولُ إن «الفضاءَ جديدٌ» أو «المبادرة مستقلة» قولاً محفوفاً بالأخطار، إذ إن جدّته هذه لا تكفي للبرهان على قوته لغة وتعبيراً، ولربما تكون العوامل التي تقدّم هذين «الجديد» و «الفضاء»، عوامل قديمة، حينها لا يمكننا لوم من يعود إلى استعمال «قديمه» لوصف «جديده».
قد يكون السابق بديهة التالي، فلا معجزات ها هنا، لكن أليست البديهة شأناً غامضاً، ألا توحي بقبول سابق على كل تَفَكّر؟
* كاتب سوري
الحياة