في المبادئ الدستورية وضرورة التوافق عليها لبناء سورية المستقبل
المحامي فائق حويجة
من المتفق عليه بين فقهاء القانون الدستوري أن مهمة الدستور والمبادئ الدستورية لا تقتصر على تقرير الحالة القائمة في البلاد، بل إن ما يضمره الدستور والمبادئ الدستورية، هو العمل على إرساء هذه المبادئ والقواعد الدستورية في المستقبل، إن لم تكن قائمة عند وضعه، وبهذا الفهم يمكن النظر إلى الدستور على أنه خطة، أو برنامج عمل تطمح الأمة إلى تحقيقه في المستقبل، أو أنها ــ بإرادتها الحرة ــ تتعهد بالمسير وفق هديه، مستقبلاً. وبذلك فإن الأمة تجعل من الدستور ــ وفق هذا المنظور ــ أداةً للتقدم الاجتماعي والتطور الإنساني. هذا الأمر الذي لا يمكن للدستور القيام به، إن لم يكن مشروعاً Valid مُجمعاً عليه من مختلف مكونات الأمة – هذا الأمر الذي نحن أحوج ما نكون إليه لضمان تحقق الدولة المدنية الديموقراطية في سوريا الجديدة – ولكي تتحقق هذه الشرعية الدستورية، لابد للدستور من أن يتضمن المبادئ الدستورية التالية :
أولاً: الدستور المشروع هو الذي يقوم بوظيفة المعيار القانوني الأعلى، الذي يفرض منهجاً يعتمده المجتمع في تشريع وفي ترجمة وفي تحديد شروط تطبيق قوانينه، وبذلك فلا يمكن اعتبار أي قانون مشروعاً إذا ما انتهك روح هذه الشروط أو حرفيتها.
ولكي يقوم الدستور بوظيفته كمعيار قانوني أعلى في المجتمع، يجب أن يكون عادلاً، أي يجب أن يكون مبنياً على أساس [… المواطنة الكاملة المتساوية، والتسليم بأن الشعب هو مصدر السلطات، وأنه لا سيادة لفرد أو قلة عليه…] .
إن هذا التصور للعدالة وعلاقتها بهدف الدولة الأسمى، هو الذي دفع فلاسفة القانون والمفكرون إلى الإصرار على القول أن الدولة الصالحة ــ بمعنى العادلة ــ يحكمها القانون لا الإنسان وليس في ذلك تحاملاً على الإنسان، بل هو تقريرٌ بان الفرد مهما بلغ من كمال، فإنه يخطئ، ويصيب، ويغلبه هواه ومصلحته، لذلك فإن الأضمن يكون بوضع متطلبات الشعب للعدالة ضمن مؤسسات ترعاها، أي أننا بحاجةٍ إلى: [… خلق الشروط القانونية والسياسية الضرورية لحماية سيادة هذه المؤسسة في الدولة، لأنه حتى في أشد الدول عراقة في احترام سيادة القانون نرى في أوقات الأزمات، ميولاً جدية لاستبدال القانون بسلطة الإنسان…] .
ثانياً: الدستور المشروع هو الذي يعبر عن الإرادة أو الروح العامة للشعب، وهو الذي يتم فيه التأكيد الواضح على الحقوق والحريات.
إذا كانت الحرية هي الشرط الأساس للكرامة الإنسانية، وإذا كانت الحرية هي الهدف الأسمى للدولة، وفق المبدأ الذي أتى به مونتسكيو أولاً، واعتنقه روسو وهيجل، فيما بعد؛ فإنه، ولكي يستطيع الشعب تحقيق هذه الحرية، يجب أن يحكم نفسه عن طريق القوانين الصادرة عن إرادته، والمعبرة عن مصلحته.
باختصار، فإن الدستور المشروع ــ من هذه الزاوية ــ هو الدستور الذي يحمي حقوق المواطنين، لأنه لا يمكن القيام بأي عملية تقدم اجتماعي دون هذه الحريات، فالإنسان الذي لا حقوق لديه، لا يمكنه أن يحكم نفسه، وبالتالي فهو يصبح مجرد “شيء”، كونه لا يشعر ولا يفكر ولا يقوم بأفعاله بإرادته، بل وفقاً لإرادة شخص آخر، أو سلطة خارجية، [… هذا النوع من البشر يوجد في المجتمع، ويقوم بوظائفه الشخصية والاجتماعية، كوسيلة لا كفاعل، والإنسان الذي لا
يعيش كفاعل، لا يعيش كعقل، وعندما لا يعيش كعقل فإنه يُرد إلى مستوى الحيوان….] .
لذلك توجب على الدستور المشروع أن يقوم بالتأكيد على حقوق الإنسان، وأن يضع الضمانات لخدمة هذه الحقوق، خصوصاً تلك الحريات الفردية والجماعية المتعلقة: بالضمير والاعتقاد والرأي والسرية والملكية والتجمع والتنقل والتصويت والسلامة…. إلخ.
مع العلم أن الكثير من الفلاسفة يعتبرون أن هذه الحقوق، هي حقوق طبيعية وكلية،
– فهي طبيعية: بمعنى أنها ليست هبة أو منحة يقدمها الدستور للشعب، لأن كل شخص يستحقها، ويمتلكها لمجرد أنه كائن إنساني.
– وهي كلية: بمعنى أنها امتياز مطلق، للبشرية جمعاء، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو المهنة أو المكانة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ثالثاً: الدستور المشروع هو الذي يعترف بحكم القانون ويحترم فصل السلطات:
الدولة الحديثة هي دولة ديمقراطية، والدولة الديمقراطية هي دولة يحكمها القانون لا الإرادة الإنسانية. والقانون لا يحكم من تلقاء ذاته، بل إنه يعمل بواسطة السلطات الموجودة في الدولة، هذه السلطات التي أجمعت الآراء الفقهية منذ “مونتسكيو” على تقسيمها وفصلها إلى ثلاث سلطات:
– السلطة التشريعية المسؤولة عن سن القوانين؛
– والسلطة القضائية المسؤولة عن تفسير القوانين وتطبيقها؛
– والسلطة التنفيذية المسؤولة عن تنفيذ القوانين.
وذلك بهدف منع احتمال إساءة استعمال السلطة أو اغتصابها، من قبل فرد أو جماعة، للدرجة التي يقرر فيها قادة الثورة الفرنسية في دستور 1791 أن: [… كل مجتمع لا يتوفر على ضمانات للحريات، وفصل السلطات، هو مجتمع بدون دستور…].
لقد اعتبر مبدأ فصل السلطات، مبدأ دستورياً موجهاً للحد من الاستبداد، وضماناً للحرية، وهو يهدف في الواقع إلى ضبط التوازن داخل الدولة، من جهة، وفي علاقتها مع المجتمع، من جهة أخرى، والتوازن يعني: [بناء المجتمع على قدر من التوافق يضمن لمكوناته على اختلاف مصالحها درجة من الانسجام والتماسك، أولاً، وثانياً: يقضي بأن تحكم الحياة السياسية وتؤطر ممارسة فاعليها بمبدأ يسمح بإمكانية تعاقب الأكثرية والمعارضة في الحكم، ويتطلب التوازن، ثالثاً: توزيع الاختصاصات بين السلطة المركزية والسلطات المحلية، وداخل السلطة المركزية بين الحكومة والبرلمان…] .
وبذلك يمكن القول أن ديمقراطية الدساتير لا تقاس بمدى إقرارها للحقوق والحريات فحسب، بل بدرجة حرصها على تأكيد الشرعية الدستورية، أي جعل ما هو مدرج في باب الحقوق والحريات محترماً على صعيد التطبيق والممارسة…
تطبيقاً لهذه القاعدة، عمد دستور فرنسا لعام 1791 إلى منع الجهاز التشريعي من إصدار القوانين التي من شأنها المس أو عرقلة ممارسة الحقوق الطبيعية المتضمنة في نص الدستور، كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 نص على أنه [… ليس للقانون الحق في منع سوى الأعمال الضارة بالمجتمع، فكل ما لا يحرمه القانون لا يمكن منعه، ولا يمكن إجبار أحد على فعل ما لم يأمر به القانون….].
وأكثر من ذلك، فإن سمو القانون على الإدارة، تطبيقاً وممارسةً، هو أمرٌ مقررٌ، وفق نظرية “دولة القانون” [… فالدولة لا تكتفي بالامتناع عن التدخل بشكلٍ مخالف للقانون، بل هي مجبرة على التصرف وفق قواعده وأحكامه (أي أنها مجبرة على) احترام الشرعية القانونية….] .
إن الوسيلة الأساسية لحماية دولة القانون وضمان تحققها، هي الرقابة القضائية، خصوصاً ما يتعلق منها باستقلالية القضاء الإداري الذي من شانه صيانة دولة القانون وفرض احترامها.
كما لا يمكن التقليل من الأهمية الفائقة لمراقبة دستورية القوانين كشرط ضروري لدولة القانون، بدونها يصبح الدستور، دون معنى، وتصبح قيمته رمزية فقط. لذلك نرى أنه في معظم النظم الديمقراطية، أصبح للقضاء الدستوري مكانة مركزية، بسبب الضمانات التي يقدمها في حماية الحقوق والحريات، إضافةً لتأثيره الواضح في ضبط النظم السياسية.
رابعاً: الدستور المشروع، هو بنظر جميع فئات الشعب، قانون دائم:
كي يقوم الدستور بمهمته كرافعة للتقدم الاجتماعي، يجب أن يعبر عن مجموع إرادة الشعب، لذلك يجب أن يتضمن أنه موضوع ليس لخدمة الجيل الحالي فقط، بل وأيضاً، لخدمة الأجيال القادمة لأنه يمثل التراث الحضاري المتروك من الأجيال الماضية والحاضرة للأجيال القادمة.
وهذا لا يعني إلغاء إمكانية تعديل الدستور في هذه النقطة أو تلك، أو نقضه بالكامل، تبعاً لتغير ظروف الحياة التي هي في تغير مستمر، بل إن المقصود من ذلك، هو أن تغيير البنية الكلية للدستور، المعبّر عن جماع إرادة الشعب والموضوع بآليات ديمقراطية ــ شعبية، مقرَّة يجب أن لا تكون ميسَّرة في كل وقت، لأن انتهاكه في كل وقت هو انتهاك لصفته التعاقدية كونه من حيث الأساس هو: تعاقد جماعي.
وكونه تعاقد يعني أن له صفة شرعية، وكونه جماعي يعني أن له صفة كلية، ولهذا السبب فهو إلزامي للجيل الحالي، وللأجيال القادمة طالما أنه موضوع بهذه الشروط: أي طالما أنه يعبر عن الإرادة الكلية للشعب، الذي وضعه بإرادته الحرة…
لكن في كل الأحوال، فإن تغيير أو تعديل الدستور، يجب أن يتم بشكلٍ قانوني، وهذه الممارسة هي بحد ذاتها، إقرار بان الدستور وثيقة دائمة، أو يجب أن تكون كذلك.
فعندما تقوم المحكمة العليا أو البرلمان بالتغيير الدستوري فإنها، أو يجب، أن تقوم به طبقاً لروح مواد الدستور والقوانين وأهدافها المعترف بها في الدولة، وبذلك يتم التأكيد والاعتراف بحرمة الدستور ومشروعيته….!
بناءاً على ما سبق ؛ وانطلاقاً مما شكلته الثورة الحالية في سورية من تحول كبير في تاريخ المجتمع والدولة السورية تبرز الحاجة التاريخية لـ “عقد اجتماعي” جديد تتجسد صيغته القانونية بـ”دستور”جديد ؛ يعبر عن الطموحات العامة للسوريين وخصوصاً فيما يتعلق بتوقهم المشروع للحرية والكرامة والتوحد الوطني …….
هذا الدستور الذي يجب أن يجسد ويعكس مفهوم “المواطَنة” بشكل حقيقي وكامل الصدقية :
[ فلن يكون هناك “عقد اجتماعي” صحيح في “الشكل والمضمون” ما لم يكن جميع “أطرافه” “مواطنين أحراراً متساوين”. ولن يكون هناك “وطن” حقيقي ما لم يكن وطناً لشعب جميع أفراده أحراراً. ولن تكون هناك “دولة وطنية” ما لم يكن “الشعب” بأفراده “الأشخاص الطبيعيين الأحرار” مصدراً وحيداً ومطلقاً لـ”السيادة”، وبذلك يكون كل “مواطن” “عنصراً من عناصر السيادة” كما قال روبسبيير قبل أكثر من مئتي سنة…..]6
إن ما يصبو إليه الشعب السوري الآن ؛ وما يجب التوافق عليه هو جملة من المبادئ الدستورية ( أو فوق الدستورية ) التي تضمن بناء وطن جديد معياره الأساس هو المواطنة الكاملة المتساوية لجميع أفراد ومكونات الشعب السوري دون تمييز أو إقصاء أو تهميش لأي سبب من الأسباب ؛ والتي يمكن تكثيف أهمها – من وجهة نظري – بالنقاط التالية :
1- سوريا وحدة جغرافية سياسية ذات سيادة كاملة ؛ مستمدة من سلطة الشعب ؛ وهي جزء من المنظومة العربية ؛
2- وهي دولة تعترف بالحقوق القومية للأقليات ؛ في إطار سورية واحدة أرضاً وشعباً ؛
3- وهي دولة قانون ومؤسسات ومواطنة تقوم على مبدأ سيادة الشعب ؛ الذي يمارس هذه السيادة من خلال مجالس منتخبة عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة باعتبار الشعب هو مصدر السلطات ؛
4- وهي دولة تقوم وفق مبدأ سيادة القانون ؛ باعتبار تساوي جميع مواطنيها في الحقوق والواجبات دون أي تمييز بسبب الدين أو القومية أو الجنس أو الرأي السياسي أو الثروة أو سوى ذلك……
5- وهي دولة ديمقراطية تعددية مدنية تلتزم وتحترم المواثيق الدولية وحقوق الإنسان وتتعهد بالعمل وفقها ؛
5- وهي دولة ديمقراطية تعددية مدنية تلتزم وتحترم المواثيق الدولية وحقوق الإنسان وتتعهد بالعمل وفقها ؛
6- وهي دولة تؤكد على احترام حريات الأفراد وكراماتهم وحقوقهم في المواطنة المتساوية ؛ خصوصاً فيما يتعلق بحق الحياة وحق اعتناق المعتقدات وممارستها وحق الرأي والتعبير والتظاهر ؛ على أساس مبدأ : < الدين لله والوطن للجميع >
7- وهي دولة تتيح لجميع مواطنيها حق الحصول على الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية ؛ المتمثل بالرعاية الاجتماعية والضمان الصحي والتعليم الإلزامي وبضرورة توفير فرص العمل بما يضمن توفير الحياة الكريمة
8- وهي دولة تتيح لجميع مواطنيها حق الحصول على العدالة ؛ أمام سلطة قضائية تضمن الدولة استقلالها وحياديتها ونزاهتها ؛ باعتبارها الضامن لممارسة الحقوق والحريات العامة ؛
ملاحظة : إن تعداد المبادئ السابقة هو على أساس أهميتها ؛ وهي ليست حصرية إطلاقاً.
الهوامش:
[1] – د. أمحمد مالكي ــ الدستور الديمقراطي ـ ص 20.
2- ميشيل متياس ــ الديمقراطية والدستور ــ عالم الفكر ــ ص 204.
3 – ميشيل متياس ــ الديمقراطية والدستور ــ عالم الفكر ــ ص 208.
4 – د. أمحمد مالكي ــ الدستور الديمقراطي ـ ص 7.
5 – د. أمحمد مالكي ــ الدستور الديمقراطي ــ ص 13.
6- الباحث محمد حسن معمار : رؤية مبدئية في الدستور ؛ دراسة غير منشورة ؛ تموز 2011
خاص بصفحات سورية.