في المعلن البريء/ رشا عمران
نشرتُ في 13 أغسطس/آب الماضي، في (العربي الجديد)، مقالاً، عن عدم قدرة السوريين على التخلص، حتى الآن، من فكرة الزعيم الأوحد والأبدي. وكان منطلقي مسيرات السوريين في تركيا لأردغان بعد فوزه بالرئاسة، وقارنت بين هذه المسيرات ومسيرات المؤيدين للأسد في سورية، وعرجت على مشاركة سوريين في مصر في الاعتصامات المؤيدة لمحمد مرسي. وكتبت أن جذر هذا كله ينبع من سنوات القمع والخوف التي عانينا منها طويلاً نحن -السوريين- في بلدنا. بعد نشر المقال، فوجئت بشتائم واتهامات كثيرة انهالت علي في صفحات “فيسبوك”، أقلها أنني متعالية على السوريين وآلامهم، وأغربها وأخطرها أنني كتبت ما كتبت لحقد متأصل بي ضد الأكثرية الدينية السورية، لكوني أنتمي لأقليةٍ، يُتهم كل من فيها بأنهم قتلة وحاقدون، حتى أن أحدهم، وهو صديق بالمناسبة، كتب أنه لا يستغرب أن أكون مشاركة في قتل السوريين سراً.
قبل أيام، قرأت خبرا عن توقيف مئات السوريين الحجاج في مطار إسطنبول، بسبب إشكالات الإقامة وجوازات السفر، ومنهم قيادات في ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، فكتبت على صفحتي منشوراً ساخراً، حددت فيه قيادات الائتلاف الذين يرون أن أداء فريضة الحج أكثر أهمية حالياً من الاستنفار المتواصل، ووضع خطط لما بعد الحملة العسكرية الدولية ضد داعش، واعتبرت مستهجنة أن الحج حالياً بمثابة الترف، بينما سورية غارقة في الدم والحرب والموت والجوع، ويفترض بقادة الثورة وممثليها والمتحدثين باسمها أن يكونوا مشغولين بذلك. فهاجمني بعضهم مفترضين أنني أهزأ من عقيدة شريحة كبيرة من السوريين، كوني لا أنتمي لهم دينياً!
وعشرات المنشورات التي أتحدث فيها عن الوضع السوري ووضع الثورة وحال السوريين ثمة من يناقشها (وهم كثيرون) من هذا المنطق فقط: انتمائي الديني الذي لا يد لي فيه، أولاً. وثانياً، والمفاجئ، دائماً، لي أن معظم من يبدأ بشتمي وانتقادي هم من النخبة المثقفة، والتي يفترض أن تكون الرافعة للمشروع الوطني السوري، وللهوية السورية التي لا يمكن إنقاذ سورية ومستقبلها، من دون استعادتها وإعادة الاعتبار إليها. النخبة التي تفتح صفحاتها على “فيسبوك” بصفتها صفحات عامة، ويتابعها عشرات آلاف السوريين وغيرهم، ما يعني أنها معنية، بشكلٍ ما، بتشكيل رأي عام، وبالتأثير في الوعي السوري الجمعي الذي يدخل، حالياً، في مساحة خواء مترافقة مع غرائز جمعية مستفَزة، تصارع للحفاظ على بقائها، وتتشبث بكل ما ترى أنه يمنحها أمل الحياة، ويسد الفراغات النفسية الهائلة التي خلفتها يد القاتل وآلياته المتنوعة، ولن تكون معنية بتأثير البدائل على مستقبلها، بقدر ما هي معنية بحاضرها المنكوب. فالتفكير بالمستقبل ليس أكثر من ترفٍ بالنسبة لها، بينما هو ضرورة وطنية وأخلاقية وتاريخية لدى النخب التي لم تتعرّض للعنف الجسدي المباشر، والقادرة على التجاوز النفسي لآثار العنف المعمم. وعندما تتبنى هذه النخب خطاباً تحريضياً طائفياً، مشابهاً تماماً لسلوكية النظام الذي يُغيّب خطابه الطائفي عن العلن، وعندما تتبنى بعداً دينياً مذهبياً للثورة السورية، وتدافع عنه، وتنفي عن الثورة صفتها الشعبية الاجتماعية التغييرية، وتتبنى سردية تطييف المجتمع، ونسب أفراده إلى هوياتهم المذهبية والطائفية والعرقية، بصفتها المعيار الأول للثورية، بشكل يصبح معه كل من لا ينتمون للأكثرية الدينية ضد الثورة وأعداء للشعب السوري، والذي ليس هو لدى هؤلاء سوى الأكثرية الدينية أو العرقية، أما الباقون فمجرد ضيوف على هذا الشعب، ومن عارض النظام ووقف مع الثورة منهم ليس في عرف هؤلاء سوى عنصر في خلايا نائمة هدفها تدمير الثورة.
عندما تردد نخبٌ ما سبق يومياً، فإنها تساهم، من حيث تدري أو لا تدري، في تدمير كيان المجتمع السوري، بآلية موازية لآلية النظام. أي أنها تمارس دوراً تخريبياً مباشرا للثورة، وتساهم في حرفها عن أهدافها، وفي تحويل قدرات المجتمع التغييرية الطموحة نحو التعلق بماضٍ، يتم ربط كل ما يحدث في الحاضر به، بينما يتم تجاهل آليات الاستبداد وتحالفاته وارتباطاته وذهنيته وتشابك أدواته الاجتماعية والاقتصادية، وتجير كلها نحو هذا الماضي الذي يستدعي، طبعاً، ما يجاوره، بالاتكاء على واقع الظلم الحاضر. عندما تردد النخب هذا يومياً، فهي تشتغل على تشكيل وعي جمعي لدى شريحة كبيرة من متابعيها، لكنه الوعي التدميري الذي يضع الجميع في دوامةٍ، يصعب الخروج منها، فالطرف المقابل، أيضاً، متمثلاً بالنظام وأدواته ونخبه، اشتغل مبكراً على المنظومة الذهنية نفسها لدى مريديه ومؤيديه الذين لم يعودوا يرون في الوطن سوى النظام والطوائف. وهكذا، يصبح الجميع في دائرة الظالم والمظلوم والقاتل والمقتول والسبب والمسبب، بينما تنجو ذهنية الاستبداد التي يسهل استبدال وجوهها بوجوه جديدةٍ، ويسهل تغيير يافطاتها بيافطات جديدة، وتعيد إحكام سيطرتها مجدداً على المجتمع، بعد أن تكمل القضاء على آخر حلم للشعوب ببناء مستقبل جديد ومشرق، وتجعلها تمعن الحفر في ماضيها، لعلها تجد فيه ما يجيب عن تساؤلاتها، من دون أن تنتبه كيف أن التراب يسد عليها طريق الرجوع والعودة.
أتساءل غالباً: هل ما تمارسه هذه النخب من تخوين واحتكار لما تدعي أنه الوطنية والثورية، ومن إقصاء من لا يشبهها بالتوجه والتفكير والرؤية والانتماء، ومن مساهمة في تفتيت المجتمع السوري واكتساب أعداء للثورة في الداخل والخارج، يمكن أن يكون بريئاً فعلاً، أم وراء صفحات “فيسبوك” ما وراءها؟
العربي الجديد