في الممارسة الطائفية للنظام السياسي في سوريا
أ.د. علي أسعد وطفة
غالبا ما نقع على خطب جميلة صداحة في الهجوم على الطائفية والتعصب الطائفي بوصفهما لعنة أبدية حلت بنا لا تحول ولا تزول وقد ابتلينا بهما بلاء لا ينقطع مداده ولا يرحم إيابه، وغالبا ما تطالعنا الصحف والمجلات بمقالات صاعقة في الهجوم على التعصب العرقي أو الطائفي أو الإثني أو المذهبي ولكنها سرعان ما تفقد بريقها ويرتد وميضها في غير ما أثر أو نفع أو ضرر. وتأسيسا على هذه الرؤية تتجنب هذه المقالة أن ترتسم على صورة ديباجة متأنقة أو على صورة خطاب ناري مصقع في الهجوم على الطائفية وتمجيد التسامح كما نفعل أحيانا وكما يفعل كثير من الكتاب المهتمين بالمسألة الطائفية في أكثر الأحيان. ولكننا لن نفعل هذه المرة، لأن الهجوم اللفظي والخطابي لا يكفي وقد لا ينفع إذا لم يكن ضارا بحد ذاته على وجه الإطلاق، وهذا يعني أن هذا الأمر يتطلب منا نوعا من التبصر والنظر في طبيعة هذه المسألة متأملين في أبعادها ومعانيها في إطار الممارسة السياسية للنظام الاستبدادي في سوريا.
يعتقد كثير من الكتاب والمفكرين – وفي هذا الاعتقاد تكمن جرثومة الخطأ -أن الهجوم الأدبي على الطائفية والتعصب الطائفي ورفضه وصب اللعنة عليه يمكنه أن يشكل قوة كافية لاستئصال هذا الداء المقيت الذي يستشري في عروقنا، وينبث في خلايا وجودنا الإنساني. وليس من الصواب أبدا أن تنقطع مهمة المثقفين على مجرد التأثير في عقول الجماهير تأثيرا أدبيا وأخلاقيا يعتقد أن يضعهم خارج مسارات الطائفية بعيدا عن مدارات التعصب الطائفي. فليس في هذا الانقطاع يتمثل الحدّ الذي يجب أن تنتهي مهمتنا عنده كمثقفين ومفكرين، إذ لا يكفي الهجوم الأدبي على الطائفية والعصبيات المذهبية عبر مقولاتنا المنمقة وخطاباتنا الرصينة وعباراتنا الرشيقة ومشاعرنا الأنيقة. بل يجب علينا أن نعلم علم اليقين بأن الطائفية لا تُجتث بالخطب والكلمات وحدها ولا تقتلع جذورها بالشتائم واللعنات، بل تحتاج إلى تأمل وتفكير ومنهج عمل ذكي صارم يمارسه عقل نقدي يستكشف مكامن أسرار الطائفية ومعاقل قوتها ومواطن ضعفها لبناء رؤية موضوعية تمكننا جميعا من العمل الحقيقي على تدمير مصادرها وتجفيف ينابيع قوتها ووجودها.
وقد لاحظنا بأن أغلب الكتابات غالبا ما تدور في هذا الفلك الأدبي من الهجوم على الطائفية. ويمكن أن أسوق مقاطع من مقالة للمناضل السوري ميشيل كيلو يصب فيها اللعنة على الطائفية حيث يقول قولا جميلا مفاده: “ليس هناك في الوجود الإنساني والسياسي كله بلاء يفوق في شناعته ومآسيه بلاء الطائفية. وعلى عكس ما يعتقد الجهلة، ليست الطائفية مستوى متدنيا في فهم الدين، بل هي النقيض الذي يقوضه من داخله، حيث يأخذ صورة خطاب يضمر بعض مفرداته، لكنه لا يمت إلى روحه وجوهره بصلة” وهذا القول الجميل الساحر البليغ هو حكمة التسامح والأنسنة ولكن صب اللعنة وحدها لا يكفي ولا هو يغني عن فقر أو يطعم من جوع.
وهنا يترتب علينا أن ندرك بأن الخطب الصداحة والكلمات الرنانة على أهميتها لا تطفئ جمرة الطائفية ولا تخمد نارها، وأن الهجوم الأدبي على الطائفية والتعصب الطائفي لا يجدي نفعا كثيرا، لأن الطائفية نتاج لجملة من الأوضاع الاجتماعية الضاربة في الأعماق، فهي ليست روحا نامية في ممارساتنا ولا ناموسا يثوي في أعماق فطرتنا. فالطائفية ترتد إلى عوامل مجتمعية متنوعة وعميقة الجذور في مجتمعاتنا، وخير لنا أن نرصد العوامل الأساسية التي تكرس الظاهرة الطائفية في مجتمعاتنا بدلا من صب اللعنة عليها، كما أنه من الأفضل لنا اليوم أن نبحث في المسألة الطائفية من منظور واقعي موضوعي وليس من أبراج مثالية عاجية قد لا تضر ولا تنفع. وعلى أساس هذا المنهج يجب علينا أن نبحث عن العناصر الأساسية الاجتماعية والسياسية التي تؤصل للتعصب الطائفي في مجتمعاتنا في الوعي والممارسة والسلوك الاجتماعي والسياسي.
أعود للقول من جديد: إن الخطب الصماء ضد الطائفية لا تجدي نفعا كثيرا ولا تثمر في القضاء على ريح الطائفية وتطفئ جمرها وتسكن صريرها وتجمد صرصرها، فالقضاء على الطائفية يحتاج إلى جهود إنسانية تربوية ومجتمعية كبيرة وكثيرة، أبرزها: تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع، وبناء مجتمع ديمقراطي حرّ تتكافأ فيه الحقوق والفرص والواجبات بين جميع أفراد المجتمع على مبدأ المواطنة والانتساب لأرض الوطن. فالطائفية ليست مرضا بذاته بل هي نتاج لوضع اجتماعي مرضي غُيبت فيه كل القيم الديمقراطية وكل الأشكال المدنية لأنظمة سياسية تقوم على قيم العدالة والمساواة والمواطنة.
وعلى خلاف الطائفية، تأخذ الطائفة صورة بنية اجتماعية أو صورة أولية لتنظيم اجتماعي أولي بدائي (عرقي دموي أو مذهبي ديني) وهي في تكوينها وبنيتها لطالما مارست دورا سياسيا في حماية أفرادها وإيجاد نوع من التنظيم الاجتماعي بين مكونات وجودها الاجتماعي. ومثل هذه الممارسة السياسية للطائفة تظهر في ظروف غياب الحياة الديمقراطية في المجتمع.
ويجب علينا دائما أن نميز بين حقيقتين في الوعي الطائفي: بين حقيقة موضوعية تتمثل في أسبابها التاريخية الاقتصادية والمجتمعية، وبين حقيقة ذاتية تتمثل في درجة الوعي في هذه الحقيقة التي قد تكون زائفة ومتناقضة مع الحقيقة الأولى.
ففي المستوى الأول من الوعي – ونقصد به الوعي العقلاني الموضوعي بالحقيقة الطائفية – ينظر إلى الطائفة بوصفها تكوينا اجتماعيا كسائر التكوينات في المجتمع له ما لها وعليه ما عليها وهو رهن الوقائع والحيثيات الموضوعية والتاريخية في المجتمع وبالتالي فإن التعصب الطائفي في هذا يكون غائبا على نحو كلي. فمثل هذا الوعي لا يترتب عليه أي مواقف سيكولوجية تعصبية أو اي نمط من الاتجاهات العاطفية والوجدانية التي تملي على الفرد سلوكا طائفيا. وهذا يعني أن الشخص الذي يمتلك وعيا موضوعيا بحقيقة الطائفة والطائفية لا يمكنه أن يتأثر بمعطياتها أو أن يكون ضحية للمشاعر والاتجاهات والسلوكات التي تقوم على أساس طائفي. ومثل هذا الخطاب يمكنه أن يحدد لنا الكيفيات التي يمكننا أن نؤثر بها في إزاحة الفكر الطائفي والتأثير في عوامل وجوده.
أما الوعي الذاتاني التعصبي للحقيقة الطائفية فيتمثل في نسق من التحيزات التعصبية الساذجة التي تملي على الفرد نمطا من السلوك العدائي تجاه أبناء الطوائف الأخرى. وهذا الوعي مبني على نسق من المطلقات والأحكام الذاتية السلبية ضد الآخر من أبناء الطوائف الأخرى. فالطائفية بالمعنى الذاتي تعني التعصب لطائفة ما والتعبير عن مصالحها والتفاني في خدمتها وتقديم مآربها على ما غيرها من الطوائف. وهذه الصورة من الوعي مضادة ومباينة للوعي الموضوعي الذي يعتمد آلية البحث النقدي في المعطيات والصيرورات والوظائف التاريخية المشكلة للتعصب الطائفي. وبالمقارنة بين الوعيين يمكن القول: بأن الوعي الذاتي يأخذ صورة ممسوخة مشوهة عن الواقع، بينما يأخذ الوعي الموضوعي صورة وعي يتطابق مع الواقع ويقاربه بمعطياته المجتمعية وأسبابه الموضوعية، ومن سمات هذا الوعي الموضوعي أنه يحتوي الوعي الذاتي ويتجاوزه ويشتمل عليه ويرسم هويته ويحدد معالم قصوره وغرائزيته، وهو على خلاف الوعي الذاتي يدفع إلى التفهم ويعزز قيم التسامح بينما يدفع الوعي الذاتي إلى التعصب والكراهية.
ومن المؤسف أن جلّ الوعي السائد في مجتمعاتنا حول الطائفة والطائفية يأخذ صورة وعي ذاتي غرائزي ينطلق من المبادئ الشمولية ويركن إلى أحكام كلية تفتقر إلى أدنى مستويات العقلانية والموضوعية. إنه وعي طائفي بامتياز ونعني به هذا الشكل من الوعي الذي يضع الآخر الطائفي في مربعات الإدانة والاتهام والتبخيس المطلق.
وفي هذا المستوى تكمن المهمة العضوية والتاريخية للمفكرين في ترسيخ هذا النوع من الوعي الموضوعي بالطائفة والطائفية والمذهب والمذهبية على حساب الوعي الذاتي القائم على المطلقات الحسية الغريزية المعادية للآخر والمنادية بإزاحته.
وهناك فرق كبير بين الغائية الطائفية والأداتية الطائفية وكلاهما مذموم: فالأول يعني أن تمارس السياسة لتحقيق مصالح طائفية لطائفة بعينها، أما الثانية فتعني أن توظف الطائفة للمصالح الخاصة الأنوية للحاكم أو للنظام أو لعائلته وكلاهما شر مستطير. ووفقا لهذا التصور فإن النظام في سوريا ليس طائفيا غائيا كما يرى كثير من الباحثين في هذا الشأن أبدا لأنه لا يعبر في أي حال من الأحوال عن مصالح طائفة بعينها ولو كانت الطائفة العلوية التي يتحدر منها الأسد. وبالمقابل يمكن القول بلهجة التأكيد أن النظام السياسي نظام طائفي أداتي بامتياز، أي: أنه يوظف الطائفة في خدمة مصالحه وسياسياته ويضحي بمصالح الجميع من أجل مصالحه الخاصة.
ويجب علينا في هذا السياق أن نميز بين مفهومين للطائفة بين: الانتماء إلى الطائفة من جهة وبين التعصب للطائفة من جهة أخرى، وشتان ما بين الأمرين. فالانتماء للطائفة لا يتناقض مع المشاعر الإيجابية للفرد تجاه الطائفة، وهذا يوازي الانتماء إلى المكان والجماعة والقوم والعصبة والحزب السياسي، ومن هذا المنطلق فإن حب الطائفة دون تعصب ورفع الظلم عنها ومن ثم رفض الظلم الذي يقع منها على الآخر أمر محمود ومطلوب في مجتمع طائفي استبدادي، أي: مجتمع ذو بنية طائفية كما آل حال بلادنا اليوم مع الأسف الشديد. أما الطائفية المذمومة فتعني التعصب الأعمى للطائفة وإعلاء مصالحها على مصالح الآخرين والانتصار لها ظالمة ومظلومة وهذه جريمة لا تغتفر ضد الإنسان والدين والأخلاق والقيم والإنسانية.
ولنا في موقف النبي صلى الله عليه وسلم من العصبية القبلية أسوة حسنة في فهم الطائفية بمعنى حب القوم (الأقربون أولى بالمعروف) عندما قال: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره.(أخرجه البخاري). وعلى هذا المنوال فإن الطائفية بالمعنى الحميد أن يمنع المرء طائفته عن الظلم في حالة كونها ظالمة ويرفع عنها الظلم إذا وقع عليها وكانت مظلومة.
وكم من طائفة افتخرت ما زالت تفتخر بالعظماء من أبنائها. فصلاح الدين الأيوبي ما زال مفخرة للأكراد في العالم الإسلامي وهذا لا يمنع أبدا أن يكون مفخرة لأمته الإسلامية في الآن الواحد، وكذلك هو حال سلطان باشا الأطرش الذي كان مفخرة للسوريين جميعهم ولم يمنعه هذا من أن يكون مفخرة لأبناء جبل العرب الأبرار الأحرار. وهذا هو حالنا مع النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم فهو مفخرة كونية للمسلمين وما زال العرب وأهل مكة يفخرون به دوم الزمان. وهذا هو حال صلاح الدين الأيوبي الذي رفع شأن المسلمين جميعا في العالم كما رفع من شأن الأكراد في العالم الإسلامي وهذا لا يتناقض من عظمته الإسلامية بوصفه رمزا إسلاميا.
وهذا الأمر قد يكون معكوسا تماما حيث تذل القبائل والأمم والشعوب بطغاتها وفساقها وفجارها والفاسقين فيها. وقياسا على ذلك مذهب الفخر والافتخار نقول كم أمة ذُّلت وهانت بالقتلة والمجرمين من زعمائها وسادتها، لقد تحول هولاكو إلى لعنة في التتر والمغول. وستالين إلى رمز تخجل منها روسيا فيما ارتكبه من قتل وسفك الدماء، وها هو القذافي أصبح سبة في قبيلته، وصدام حسن زلة في قومه، وهتلر رمزا للمهانة الألمانية، ونيرون لعنة في روما، وهذا هو حال كل السفاحين والقتلة والخونة من الزعماء الذي أصبحوا عارا على قومهم وأهلهم في كل زمان ومكان.
طائفية النظام السياسي:
وهنا يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة العلاقة بين نظام الأسد ومختلف الطوائف ولاسيما الطائفة العلوية التي يتحدر منها وإليها ينتسب؟ فنظام الأسد كان وما زال أكثر الأنظمة السياسية ظلما للشعب السوري بعامة وأبناء الطائفة العلوية بخاصة ولجميع الأقليات والفقراء في سوريا على وجه التحديد والحصر. فالعلويون في أغلبهم طائفة من الفلاحين الفقراء والجنود والموظفين في الدولة في سوريا، ويعلم الحابل والنابل أن النظام السياسي القائم كان وما زال نظاما سياسيا برجوازيا ربويا قائما على الفساد يأخذ بمصالح الطبقات التجارية الغنية ومصالحها على حساب الطبقات الفقيرة ولقمة عيشها. وتأسيسا على ذلك فإن هذا النظام كان دائما وأبدا نظاما معاديا لمصالح الطائفة العلوية بوصفها شريحة اجتماعية من الفلاحين الفقراء والمعدومين.
والسؤال متى كان نظام الأسد في مرحلتي الأب والابن يعنى بالطائفة العلوية ويهتم بمصالحها ويعبر عن طموحاتها ويدافع عن مصالحها؟ نحن في معرض الإجابة عن هذا السؤال نعتقد بأن هذا لم يحدث أبدا في تاريخ آل الأسد ولن يحدث بعد اقترابه من النهاية المأساوية الوشيكة المحتملة فالأسد لم يكن يوما معنيا بطائفته أو أي طائفة أخرى إلا من خلال المصالح الذاتية التي تتصل بأمجاد سلطته ومآثر سطوته.
لقد عمل الأسد الأب منذ بداية وصوله إلى السلطة على تحويل الطائفة العلوية إلى مطية وأداة وضيعة طيعة في سبيل ترسيخ نظام حكمه، وتأصيل استبداده، والمحافظة على مجده الفردي، الذي بناه على أشلاء أبناء الطائفة العلوية، إذ حولهم إلى طبقة من الجند والحراس لنظامه، ففتح لهم ابواب التطوع في الجيش على مصراعيه، وشجعهم وأغراهم على ذلك، ثم عمل على تنظيمهم في وحدات عسكرية مغرقة في الولاء لنظامه، غايتها المحافظة على نظامه وحراسة أمجاده الشخصية. ومن ثمّ وظف أدواته السيكولوجية والإيديولوجية لغسل أدمغتهم وتصفية عقولهم وتطبيعهم على الرضوخ لإرادته والإذعان لمشيئته، فلقنهم دروسا في فن الذل والعبودية والاستكانة، فأصبحوا مجرد أدوات عسكرية طيعة لنظامه يوظفهم في خدمة مجده الزائف وأطماعه الجنونية.
ومنذ البداية عمل الأسد على تدمير كل مظاهر الحياة الفكرية والثقافية لأبناء الطائفة إذ قام بتدمير البنى والتكوينات الفكرية في الطائفة، وعمل على تجويف الطائفة من مختلف قدراتها وكفاءاتها الفكرية والسياسية، فأمعن في أبناءها فتكا وسجنا وتعذيبا وتدميرا، ومن ثم قام بقطع الرؤوس الفكرية والدينية التقليدية والمعاصرة، وأبقى على ذاته ومن يلف لفه حاكما مطلقا ينوب عن الطائفة في كل قضية وفي كل أمر. وبعبارة أخرى جعل من الطائفة جثة هامدة فكريا وثقافيا وأخلاقيا بلا رأس بعد أن قام بالقضاء على مفكريها ومثقفيها وأصحاب الرأي فيها، فأحرق الأخضر، وألهب اليابس، حتى لم يبق في ربوع الطائفة ضرع ولا غرس ولا قيمة ولا زرع، وكدس أبناء الطائفة كجند أذلاء في دمشق، ثم رماهم في أكوام العشوائيات الهوامية المترامية الأطراف بلا كرامة أو قيمة إنسانية بعد أن قطع دابر اتصالهم بأريافهم وقراهم التي عرفوا فيها بعضا من كرامة الوجود وعزّ الحياة.
وفوق ذلك كله سلط على أبناء طائفته هذه الأيديولوجية الطائفية الزائفة التي تروج للأسد بوصفه حامل رسالة الطائفة العلوية والزائد عن مصالحها وكرامتها بجنده الأوفياء وأبطاله الشجعان.
والحق يقال: إن من ينظر اليوم إلى أوضاع أبناء الطائفة العلوية نظرة موضوعية سيرى بأن نظام الأسد كان العدو الأكبر للطائفة العلوية ولم يزل، وما زال هذا النظام يشكل خطرا وجوديا على وجودها ومكانتها في المجتمع السوري. لأن تحويل أبناء الطائفة إلى حراس مخدوعين بزيف المقولات الأيديولوجية للنظام حالة مريعة من حالات الاستلاب والاغتراب تتميز بطابع العمق والشمول، حيث يفقد أبناء الطائفة قيمتهم الإنسانية ويتحولون إلى أدوات طيعة بيد حاكم قاصر جاهل مستبد لا يرحم. ونعود للقول بأن الأسد وظف الطائفية والطوائف خير توظيف في خدمة مصالحه ومآربه وأمجاده الشخصية في تحقيق الامتلاك الشمولي لمقدرات الوطن وإمكانياته. ولو أخذنا المعنى الحميد للطائفية أي الدفاع عن الطائفة ومصالحها وحياتها ووجودها دون تعصب أو كراهية للطوائف الأخرى لقلنا:
– وظف نظام الأسد الطائفة العلوية وما زال في خدمة مصالحه الضيقة في الحكم والاستبداد، وهو على استعداد أن يضحي بأبنائها وأبناء سوريا جميعا من أجل نزواته العمياء وسطوته الخرقاء. وهذا أمر واقعي إذ جعل من الطائفة العلوية (طبعا وغيرها) مطية لمصالحه الأنانية ومصالح العائلة وثلة قذرة من المتآمرين والفاسدين والفاسقين في نظامه السياسي والإداري.
– لو كان الأسد عقلانيا يحب طائفته ووطنه لعمل على تحويل نظام الحكم إلى نظام ديمقراطي يكفل للطائفة العلوية وأبناء الأقليات الكرامة والحقوق والواجبات في وطن متحد متكامل بين أبنائه وطوائفه على مبادئ العدل والحق والخير والحرية والجمال.
– لو كان الأسد عقلانيا يحب وطنه أولا وطائفته ثانيا، ويحرص على مستقبل الوطن والطائفة والإنسان في سوريا، لاستجاب منذ البداية لمطالب شعبه في الحرية والكرامة ولبى مطالبه المشروعة في بداية الانتفاضة أو بعض مراحلها على الأقل.
– لو كان الأسد يحب وطنه أولا وطائفته ثانيا ويعنى بمستقبلهما لعمل على فتح المعامل والمصانع والمتاجر والمعاهد الفنية ويحسن أحوال الزراعة في الساحل بدلا من تجنيد أبناء الطائفة في جحافل الجيش ووحدات النظام لحماية استبداده وتسلطه؟
– لو كان الأسد وطنيا ومحبا لطائفته لعمل على الاهتمام بالأراضي الزراعية في الساحل السوري بعد أن أفقر الفلاحين وأجبرهم على ترك أرضهم وهجرها وبيعها للارستقراطية الناشطة في عهده، ولكان قد وفر مصادر رزق جديدة لأبناء الطائفة تغنيهم عن الذل والمهانة في عشوائيات الشام التي يتجرع فيها أبناء الطائفة كأس الذل والقهر والمهانة!
– لو كان يحب طائفته ووطنه لعمل على تدمير النزع الطائفي وكل أشكال التعصب في البلد ولكان قد عمل على دمج الطائفة العلوية والأقليات جميعها في نسيج وطني سوري دمجا أخلاقيا وإنسانيا رائعا يتصف بطابع الوحدة والديمومة والاستمرار؟
– لو كان محبا لوطنه وغيورا عليها لبث ثقافة الديمقراطية والتسامح في المجتمع السوري وحوله إلى مجتمع ديمقراطي ترسخ فيه القيم الديمقراطية وقيم التسامح لأنه بذلك يخدم طائفته وأبناء الأقليات كما أبناء الوطن جميعا في المجتمع السوري.
– لو كان الأسد يحب طائفته حقا ويغار على وطنه بعد انفجار الأحداث لأسرع في تسليم السلطة لقوى المعارضة المعتدلة وذلك من شأنه أن يضمن سلامة أبناء الطائفة وأمنهم قبل أن تستفحل القوى المتطرفة في البلد وتأخذ مكانها في عمق الحياة السياسية في سوريا.
– لو كان محبا لطائفته ووطنه لتوقف عن قصف المدن والأحياء الآمنة بالدبابات والمدافع دون تمييز بين المقاتلين والمدنيين الاعزل الأبرياء! ولو كان في محبا لوطنه وطائفته لما أقدم على ارتكاب المجازر التي تحمل مسؤوليتها في نهاية الأمر للطائفة العلوية لتصبح (ونتمنى ألا يكون ذلك طبعا) هدفا للمجازر في مستقبل القادم من الأيام.
– لو كان عقلانيا محبا لوطنه وطائفته لما وضع الطائفة العلوية والأقليات أيضا في مواجهة حرب طائفية طويلة الأمد مع أخوتهم من الطوائف الأخرى وهي حرب خاسرة بالضرورة للوطن بأبنائه جميعا.
– لو كان محبا لوطنه وطائفته لما جعل من نفسه والطائفة العلوية أداة في يد إيران تسخرها لخدمة مصالح إيران المذهبية والتوسعية في المنطقة. فالأسد من حيث الممارسة السياسية عدو الطائفة العلوية كما هو عدو لأبناء وطنه والإنسانية جمعاء، لأنه ومن أجل البقاء في كرسيه الوضيع قتل أبناء شعبه وسفك دماءهم ووظف أبناء طائفته وغيرها من العسكر في خدمة مآربه ومصالحه ومصالح عائلته المحدودة الضيقة. وهو اليوم يراهن على وجود طائفته وكرامتها ويضعهم في قفص الاتهام جميعا من أجل البقاء على الكرسي لأيام قد تقصر أو تطول إلى شهور معدودة.
– وما يؤسف له أن الأسد ونظامه السياسي قد حولا الطائفة العلوية أيضا إلى جماعة منبوذة مكروهة في العالمين العربي والإسلامي – وهي لا حول لها ولا قوة في ذلك – نتاجا لسلوكه الدموي وانقياده الأعمى لغرائزه البدائية في قتل الشعب السوري وسفك دماء الأبرياء على امتداد الوطن السوري.
لقد أجرم النظام الحاكم بحق طائفته وشعبه كما لم يجرم أحد بحق شعبه وأمته ووطنه. وأين هو الأسد من أكرم الحوراني الذي أحب طائفته وشعبه من أبناء سوريا جميعا فتفاني في خدمة الوطن والإنسان في هذه الأرض السورية المباركة؟ أين هو منه عندما قام هذا الرجل العظيم وهو سني المذهب وطني الهوى قومي الشكيمة بتوزيع أملاكه وأراضيه على الفلاحين من أبناء الطائفة العلوية حبا بوطنه وبرا منه بأبناء الوطن دون تمييز بين أبناء الوطن؟ نعم هو ذلك الحوراني الذي أعطى وهذا هو الأسد الذي أخذ الأرض والعرض فانتزع أملاك ابناء الطائفة العلوية وحولهم إلى عبيد فقراء أذلاء؟ إنه الحوراني ابن حماه العظيم أعطى الذي أعطى وأكرم بذلا في الكرم والعطاء، وذلك هو الأسد الذي أخذ وسلب وأسرف في الأخذ والنهب والسلب لمكونات الوطن والإنسان… إنه أكرم الحوراني الذي أعطى أراضيه للفلاحين العلويين والأسد الذي نهب أراضيهم وملكياتهم لبناء الاقطاعيات الكبرى على حساب الفلاحين ولقمة عيشهم في المنطقة.
أين أنتم من أكرم الحوراني حين جعلتم من أبناء الطائفة جند حراسة وعبيد أذلاء لثلة من القتلة المأجورين؟ أين أنتم من أكرم الحوراني وغيره من شرفاء هذا الوطن عندما جعلتم بنات الفقراء من الطائفة العلوية وغيرها خادمات للتافهين من أعضاء القيادة القطرية والقومية والمقاولين الساقطين في التاريخ والإنسانية؟ أين أنتم من أكرم الحوراني وصلاح جديد ونور الدين الأتاسي والشرفاء من أبناء هذا الوطن الذين تفانوا حبا بوطنهم وإيمانا به واستبشارا بمستقبله وكرامته؟
يقال عن عنترة أنه حمى قومه بني عبس حيا وميتا.. لأنه بعد موته (كما تروي الروايات) وضع قومه جثمانه على حصانه في ساحة المعركة ليخيفوا به أعداءهم بينما كانوا يعدون أنفسهم للهرب… ولذا غالبا ما يقول الناس رحمك الله يا عنترة: زدت عن قومك حيا وميتا.
أما نحن فماذا نقول لك أيها الأسد بعد أن صببت اللعنة على أهلك وقومك وطائفتك في حياتك وستلاحقهم هذه اللعنة بعد مماتك! لقد خذلت قومك وشعبك ووطنك بعد أن تحولت إلى رمز كبير من رموز التسلط والفساد والإرهاب الدموي سفحا وجنونا وطغيانا.
رحم الله أكرم الحوراني ابن حماه البار وكل الشرفاء في الوطن السوري العظيم. رحم الله شهداء الثورة السورية الأبرار… رحم الله الشهداء من النساء والأطفال والشيوخ.. كان الله معكم أيها الثوار… ونسأل الله أن نحتفل وإياكم بالنصر المؤزر تطهيرا للوطن من هذا العار… عار التسلط وجنون الاستبداد وعقم الكراهية… وعاشت سورية حرة أبية بشعبها الذي آمن بالحرية هوية ووجودا ومصيرا.
أ.د. علي أسعد وطفة: جامعة الكويت