في الوداع الضروري والموقت لدمشق
عبدالله أمين الحلاق
عندما غنّت أصالة نصري “القصيدة الدمشقية ” لنزار قباني، كانت جرعة القمع في سوريا آنئذٍ لا تتجاوز السجن للمعارضين وموتاً يفيض على السجون قليلا. كان الطاغية بارعاً كعادته في توزيع حصص الموت والسجن والتغييب والفقر والحرمان على أبناء شعبه، على ما كان يشير أحد أبيات القصيدة: وكيف نكتب والأقفال في فمنا/ وكل ثانيةٍ يأتيك سفاحُ
بعدها جاء بيان المثقفين السوريين في المنفى متزامناً مع اختيار دمشق عاصمةً للثقافة العربية عام 2008، وجاء فيه: “… فمن جانب أول، يقبع في سجون دمشق عدد من خيرة مثقفي سوريا، ومن جانب ثانٍ، جرى ويجري اليوم أيضاً تهديم عدد من معالم دمشق الأثرية وأسواقها العريقة، خصوصاً تلك التي تصنع خصوصية المدينة التراثية والمعمارية، كما تُبقي الكثير من تقاليدها الإنسانية والثقافية والتاريخية حيّة وحيوية… إنها دمشق الشام حيث الطريق إليها مستقيم حقّ لا ينبغي له أن يمرّ بالمعتقلات والسجون وأقبية التعذيب”.
مر الكثير على سوريا منذ عام 2008 إلى اليوم، مروراً بمحطة 15 آذار 2011 حين أطلق مجموعة من المثقفين والناشطين المدنيين والديموقراطيين شرارة الاحتجاجات، التي أعلنتها درعا ثورةً شاملة بعد أيام قليلة، وتغير جلُّ المشهد الدمشقي بعد ذلك اليوم. التغير هنا لا يلوح تقدماً وازدهاراً وانفتاحاً وإنما يتبدى في العودة القهقرى إلى الخلف وتوسيع احتمالات السجن السوري بما لا يطاق، ليمسي موتاً عارماً وألماً عظيماً تنوء بحمله واحتماله الجبال. كما يتجلى في تقدّم الهدم لدمشق القديمة وأسواقها باستخدام ما لا يبقي من البشر والحجر ولا يذر. صواريخ وقنابل وأسلحة ثقيلة. دمشق اليوم هي الآثار التي كانت تهدم في عام 2008 وقد عجنت حجارتها بلحم أهلها، فيما تدار المقتلة بالآلة القديمة نفسها، وعلى يد صانعيها انفسهم.
الفسيفساء السورية التي أثقل الإعلام آذاننا بالحديث عنها هي دمشق، بتقسيمات أحيائها تبعاً لسكانها المحليين أو الوافدين إليها، وهي دمشق في اختلاط المكوّنات الما قبل وطنية ضمن أتون مدينة واحدة صارت تفصل بين أحيائها مذ اندلعت الثورة متاريس وحواجز بشرية ونفسية على أسس طائفية أولاً. أحياء بأكملها على سفوح قاسيون هي كانتون و”غيتو ” خاص بطائفة معينة هي الطائفة التي ينتمي إليها طاغية سوريا والذي نُسبت هذه الطائفة لممارساته وإجرامه زوراً وبهتاناً. كنتَ تستطيع أن ترى ” شوائب ” من طوائف أخرى أو مناطق من غير قرى ومناطق هؤلاء في أحيائهم وعشوائياتهم السكنية تلك، لكن، ومع اندلاع الثورة، صار الشك بأي غريب أو بعدم انتمائه إلى خندق التماهي مع النظام السوري كفيلاً بالحكم الفوري عليه بالخيانة. يحدث هذا تحديداً في أماكن النقاء الطائفي تلك. الثورة السورية بدورها هي ثورة كان الريف مساهماً فيها أكثر من المدينة، أقلّه في الأشهر الأولى. دخلت دمشق إلى الثورة بعد دخول كل المدن الأخرى وريفها إلى الثورة، أما حلب فلم تدخل بقوة إلا لاحقاً.
“ما صنعه الله لا يفرقه إنسان”. هذا هو الشعار الذي جاء به طاغية الشام الراحل ليجعله مطية للعلاقة بين الشعبين اللبناني والسوري، منسوبةً إلى الإله، وهو ما يستكمله إله الموت السوري، وارث عرش أبيه وفنّه في إدارة المقتلة التي صارت مقتلة حماه عام 1982 أهزوجة ونكتة سمجة أمامها. ما صنعه بشار الأسد اليوم في سوريا وفي دمشق تحديداً، إضافة إلى الموت والسجون الملأى بالصراخ والعويل، هو تمتين لأواصر الحقد والنقمة بين الطوائف بحيث بات الإنسان والله في علياء سمائه وراحته النفسية أمام ما يجري على الأرض عاجزين عن فك هذه المعضلة الوضعية لسنوات مقبلة.
¶¶¶
في مقهى “لا روش” ومقاهٍ غيره في ساروجة، تتحول الحجارة الزرقاء والأبنية القديمة إلى اسفنجة تمتص موقتاً كل الكلام الذي يردّده رواد هذا الحي القديم، من ناشطين ومثقفين وكتّاب ومدمنين للحديث اليومي والطبيعي في شؤون البلد، فلا يغادر الكلام تلك الحجارة التي تقف شاهدة على نوائب تعرضت لها المدينة وعلى جبابرة وطغاة مرّوا بها ذات يوم. بات المكان منتديات يومية للحوار والنقاش في أحوال الثورة، فلا يكاد يتعرض اليوم لضربة أمنية وحملات اعتقال إلا ويتكلم حجر الصوّان ويردد كل ما كان يسمعه، قبل لحظات من الهجمة المسعورة، وقبل اعتقال من ترك كلماته صدىً تردّده جدران ذلك المكان وذاكرته التي حملها معه إلى السجون.
ساروجة حكاية وذاكرة وعبرة في حد ذاتها، ذلك ان تيمورلنك نصب منجنيقاته فيها يوم اجتاح أوباشه المدينة، لضرب الاحياء الاخرى القريبة والبعيدة وتدميرها، فكان أن دمِّرت ساروجة ودمشق وأُحرقت، وعاث رجال القائد المغولي فيها فساداً ونهباً واغتصاباً لأرحام نساء المدينة، قبل أن ينحسر بحره الأسود متوعداً ومتعهداً العودة، ليعود قبل عامين بالوحشية والتعطش نفسيهما، لسفك الدماء وسفح الأرحام. فإذا ما أحس تيمورلنك السوري بالتعب للحظة، استعاد وعده وجاءه العهد القديم والتلمود مسانداً في غارات اهتزت لها المدينة صباح يوم 5 أيار 2013، وهو لا يبدو معنياً بأن من كان سلفه هولاكو يدعي أنه يمانعهم منذ 16 تشرين 1970، باتوا حُماته والأقدر على إحداث ضجيجِ قصفٍ جوي استطاع لساعات فقط أن يغطي على صراخ أهالي البيضا في بانياس وهم يُذبحون كالنعاج.
¶¶¶
بعد الاعتداء السافر من النظام على دمشق، وقبلها حلب، وإحراق المعالم الأثرية والتاريخية ومنافذ الحياة فيهما، وتدميرها، صارت صعوبات تمتين بنية فوقية للمجتمع أكبر بما لا يقاس من إعادة الإعمار وخلق بنية تحتية جديدة فيه. ما حدث ولا يزال يحدث هو خراب فكري وثقافي وسياسي وروحي ومجتمعي لا يقلّ، في نتائجه، عن الخراب المادي الذي حصل. قذائف النظام التي كانت تنهال على أحياء واحدة من أعرق حواضر العرب ومدنهم، كان لها وقع الصاعقة على النفوس والأذهان. هكذا، سيبدو مشروع العودة إلى دمشق الخمسينات والدولة الوطنية، بمحمولَيها الوطني والديموقراطي المدني شاقاً جداً. المستقبل رهن الاصطفافات التي كانت تحت السطح لأربعين عاماً، ثمّ طفَت وانفجرت بعدها على شكل تموضعات جغرافية في دمشق نفسها، ليرتفع الصوت الما قبل وطني والمستند الى “ريفية” هي أبعد عن طيبة أهل الريف وحدود طموحاتهم وبساطة حياتهم وعفويتها المعروفة والمحببة.
الطرف الآخر ريفي أيضاً بنسبة كبيرة، عنينا الشارع الثائر، لكنه وممارساته لا تقارن بممارسات نظام أسدي مغولي يدمّر ويقتل بلا حدود، لم يغادر البربرية وإن وضع الشعارات الرنانة واجهةً لخطابه السياسي والإعلامي، مخفياً حقداً دفيناً على المدينة الذي انفجر في لحظةٍ قذائفَ كانت تنهال هنا وهناك لتقتل وتدمّر، ولتتشظى معها كل الأفكار التي كانت تعد بقيامة سريعة في سوريا بعد أفوله المنتظر، غير مأسوفٍ عليه أبداً.
¶¶¶
الموت يوحد السوريين على انتماءاتهم ومواقفهم من النظام والثورة على حد سواء، ودمشق تبدو اليوم كما لم تكن من قبل، حاضنة الموت السوري والأكثر قدرة على رعاية الجنين الذي سيولد بعد خراب وموت سوري أذهل العالم لكثرته. إنها الفرادة السورية المؤلمة في أقسى تجلياتها، ذلك أن الواقع والشرط السياسي والميداني الذي خلقه النظام، جعل دمار المدينة ممراً ضرورياً نحو البناء من جديد، وهذا قد يبرز المفارقة المهمة والواضحة، ومفادها أن الوداع الموقت لدمشق هو المدخل الضروري لإعادة بنائها وترتيب مزاجها الجميل الذي عكّره تيمورلنك الأول قبل قرون، ويلقي به تيمورلنك الحالي في مهب دمار تتساوى بسببه الأبنية الشاهقة بالأرض. فإذا ما انحسر هذا المغولي المستأسد وذهب إلى مصيره البائس والحتمي، تململت دمشق قليلاً وتحرك الركام فوقها كفينيق ينذر بالقيامة، وسيقوم كما ولا بدّ، وإن بعد حين.
النهار