صفحات الثقافةممدوح عزام

في برلمان الرواية/ ممدوح عزام

 

 

قال الروائي الإنجليزي، هنري فيلدينغ، ذات يوم عن نفسه إنه “مؤسس إقليم أدبي جديد” ثم أعلن: “باعتباري مؤسس الإقليم الأدبي الجديد، لدي ملء الحق في أن أسنّ القوانين في هذه الولاية القضائية”.

ومن الواضح أن الروائي الذي عاش قبل بضعة قرون، قد رشّح هذا الفن كي يكون في خط المواجهة مع السلطات كافة، الزمنية منها والروحية. من المؤكد أنه لم يتجرأ أحد من قبل على الزعم، أو الادعاء، بأنه يملك الحق الحصري في تأسيس إقليم، أو أقاليم مستقلة سياسياً وإدارياً وفكرياً وقانونياً عن أي سلطة، مهما ملكت هذه السلطة من القوة والعنف والقدرة على المصادرة والمنع، في العالم كله، غير الروائي.

ويمكن للمرء أن يتجرأ ويقول إنه لم يتعرّض فن من الفنون، أو قول فلسفي أو فكري، لمثل ما تعرّض له فن الرواية في التاريخ من محاولات لوأد هذا الحق الذي يشير إلى الحرية.

وقد سعت السلطات السياسية والدينية والمجتمعية لتكبيل يد الروائي، ومنعه من النشر، أو وضع أشكال من الرقابة على الرواية في السوق والمكتبات. والحقيقة هي أنها لا تستطيع منع الحرية عن الروائي داخل النص. فحدود الرقابة التي تملكها أيُّ سلطة تتوقف عند حافة السطر الذي يكتبه الروائي في آخر صفحة من الرواية، التي يشتغل عليها.

وبهذا المنحى فإن حرية الروائي يمكن أن تكون إما حرية الكتابة، أو حرية التعبير. أما في حرية الكتابة فلا قيود البتة على الروائي، إنه يملك كافة الصلاحيات لخلق الشخصيات، ومنحها القدرة على القول والفعل في أي حقل أو باب من أبواب الحياة التي يريدها.

في الكتابة، لا قيود ولا محظورات، إلا تلك التي يضعها الكاتب طوعاً على نفسه. وفي هذه المساحة وحدها يتاح للروائي أن يمارس السلطة المخالفة لكل سلطة، إذ يبني رواياته بحسب شرائع “الديمقراطية الروائية”، وهي الشرائع التي تتيح لكل واحدة منها أن تحيا بوصفها كائناً جديداً قادراً على أن يكون نداً للبشر الأحياء، الذين من لحم ودم.

أما التعبير العلني، فهو ملعب الأنظمة المستبدة. هناك تتمكن من نصب الشراك، وسن القوانين المضادة لقوانين الرواية.

والموافق لأي استبداد هو أن يضع المحرمات، والمحظورات، والممنوعات في سجل الرقابة على الرواية، إذ ربما تكون الرواية أفضل البرلمانات التي تمكّن الناس من تجربتها. ففيها تتمرد الشخصيات على الروائي. هذا ما يقوله معظم الروائيين في شهاداتهم. فهي تختار ما تريد، وتذهب في خط الحياة المناسب لطبيعتها.

إنه أمر يسرّ الروائي المؤسس، وقد يسرّه أكثر من ذلك أن ترفض أوامره وإملاءاته. وفي الرواية يجرب الكاتب خلق أشكال من الحياة اللائقة بالبشر، بعيداً عن قوانين القهر التي يصنعها استبدادٌ معادٍ للحياة وللإنسانية معاً.

وفيها تعلو قيم الحق، والجمال، والفضيلة، دون أن تكون مزيفة، أو مدونة لأغراض الخداع، أو لتمرير المنفعة. وفيها يتم التنديد بالقتلة، تنديداً حقيقياً، كي يساقوا إلى المحاكم، بقوة قانون الحق، لأن الرواية إقليم الحرية.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى