في بلد يسوده القتل ورئيسه غائب عن الوعي.. العصيان المدني آخر الدواء الكيّ
د. عمّار البرادعي
يقولون ‘يكاد المريب أن يقول خذوني’، فكيف بمرتكب الجريمة المعروف والموصوف والثابتة عليه أمام أعين العالم، كما هي حال نظام بشار الذي ما زال يلفّ ويدور محاولا التغطية عليها بشتى طرق التحايل لكسب الوقت، رغم إدراكه أن كل هذه الأساليب المفضوحة لن تحول دون مصيره المحتوم على أيدي أبناء شعبه.
لم يُفاجئنا نظام بشار برفضه منذ البداية التوقيع على بروتوكول يسمح بدخول مراقبين من قبل الجامعة العربية، بل على العكس كان يمكن أن يُفاجئنا لو قبل بذلك. لقد كان من البديهي أن يرفض بمجرّد أن يسأل نفسه : ماذا سيُراقب هؤلاء وماذا سيسجلّون عن مشاهداتهم لعمليات التقتيل والقمع، وعن مشاهد أرتال الدبابات وهي تقتحم المناطق السكانية وجثث القتلى التي تبقى في الشوارع إلى حين التمكن من انتشالها، ناهيك عن جنازات التشييع بالجملة كل يوم، والدمار الذي يستحيل أن تُحدثه بنادق ‘المتآمرين’ من أفراد الشعب، على فرض أنها استُعملت في كل أنحاء سورية لمواجهة آلة التدمير الرسمية ؟
من المؤكد أن كل ما ستراه عين المراقب أو الزائر من جرائم بحق المواطنين هو من صنع أجهزة النظام المدرّبة على قمع المواطن في الأساس بدل مواجهة الأعداء، فهل يمكن والحالة هذه أن يكون الحاكم الدكتاتور ضدّ نفسه حتى يوافق على استقدام من سيكبّل يديه ورجليه بالقيود، وهو الذي يدرك أنه بمجرد توقيعه على البروتوكول يكون قد بَصَمَ سلفا بإبهامه على لائحة إدانته المعززة بكمّ من الوثائق وشهود العيان ؟
رفض النظام من هذه الزاوية كان بديهيا ومتوقعا، ولم يأت بدافع الحرص على السيادة ولا الكرامة كما تُردّد أبواقه الإعلامية، ولا ردا على شعوره بالإهانة من قبل الجامعة العربية التي أثبتت وقائع الأسابيع الأخيرة أنها ـ وبتوجيهات من معظم حكامنا ـ حريصة على عدم إسقاط نظام بشار بأيدي شباب الثورة الشعبية.
ليس بدافع حبّ هؤلاء الحكام له، بل حرصا على بقائهم في كراسي الحكم وتحسّبا ليوم يصل فيه كل واحد منهم الى وضع بشار الآيل الى مصير القذافي ونظامه، بدليل هذا الكرم الرسمي والإستثنائي في منحه العديد من المهل المتتالية، وعدم قطع الجامعة الإتصالات معه لتبادل الآراء حتى بعد أن’ زاد على قائمة شروطه السابقة أمورا جديدة لم نسمع بها من قبل’، حسبما قال أمينها العام نبيل العربي، إلى درجة أن كل مهلة ‘أخيرة’ منها كانت تتبعها على الفور ‘أخيرة أخرى’، حتى وصلت حدود المماطلة الى منحه بعد استنفاذ هذه المهل ‘مهلة إضافية’.
ورغم كل هذه المراعاة التي لم تلق من النظام إلا التلاعب وفرض الشروط الإحتيالية المستفزّة التي تمثّلت حتى بعودته التكتيكية للموافقة على البروتوكول بصيغة أوقــــح من الرفض وأكثــــر مغالاة في المكابرة بالمحسوس، عاد أمين عام الجامعة مجددا إلى الطلب من السلطات السورية توقيع هذا البروتوكول لكي يجري رفع العقوبات عنها، دون أن ننسى أن شرط رفع العقــــوبات الذي تقدم به النظام يقضي بفورية الرفع بعد التوقيــــع، وليس بعد التنفيذ كما يُفترض. ولما اضطُرّ بعد ذلك إلى دعوة وزراء الخارجية للاجتماع يوم السبت 17 الجاري، عاد وأجلّ الموعد .. وهكذا دواليك حتى اللحظة.
هذا المسلسل بكل تعقيداته كان من الممكن اختصاره وتفادي نتائجه من قبل النظام، حيث كان بإمكانه الهروب من ‘زنقة’ المراقبين وخيار القبول أو الرفض قبل الوصول اليها، لو تخلّى عن عقدة المكابرة وتعامل بإيجابية وتعقّل مع مطالب الإنتفاضة الشعبية التي سرعان ما حوّلها بعناده وجبروته الإجرامي الى ثورة شاملة وصلت الى حد إعلان لجان التنسيق المحلية عن بدء ‘إضراب الكرامة’ المفتوح، واعتباره الخطوة الأولى نحو مرحلة العصيان المدني الشامل الذي سيفضي إلى شلّ كل جوانب عصب النظام.
كان بإمكانه الإعتراف بالواقع الإستبدادي الفاسد دون مواربة ولا تعلّل، والمسارعة إلى اتخاذ قرار جريء بوقف عجلة التقتيل، وإبداء استعداده للنزول عند إرادة الشعب وتلبية مطالبه، بدلا من الإصرار على نعته بالمتآمر والإرهابي والعامل على تنفيذ مؤامرة خارجية تستهدف ممانعته وصموده وتصدّيه التي صدّعنا بها طوال أربعة عقود من التفرّد والتحكم برقاب العباد. وكان بإمكانه أن يُقلل من حجم كارثته القادمة لا محالة، وربما كان بإمكانه عندها المطالبة بضمان نهاية له تختلف عما حصل للقذافي، بدل أن يُصبح من المستحيل عليه اليوم أن ينال نهاية كعلي عبد الله صالح الذي تحايل كثيرا ثم اضطر الى التنازل، ولو بصيغة لا تخلو من الخبث والتحايل أيضا.
الغريب في بشار الذي استغربت باربرا وولترز من تصنّعه الهدوء وإنكاره كل الحقائق أثناء الحوار الذي أجرته معه لمحطة إم بي سي، تأكيده من خلال أجوبته الإستهبالية على الأسئلة التي وُجّهت إليه أنه فعلا كما وصفه الناطق باسم الخارجية الأمريكية ‘إما منفصل عن الواقع وإما أنه كما قال هو: ‘ليس هناك حكومة تقتل شعبها إلا إذاكانت تحت قيادة شخص مجنون’. فهل يُعقل مثلا أن يكون جوابه على السؤال الذي طرحته عليه باربرا: كيف تصف ما يحصل الآن (في سورية)، بالرد مندهشا: ‘..وما الذي يحصل؟’.
وحتى عندما رأيناها تسايره على تجاهله وتقدّم له بعض الأمثلة على الجرائم التي ارتُكبت بحق شخصيات معروفة ذكرت ثلاثة منها بالإسم، ادعى أنه لا يعرف أحدهم ولم يسمع عن الآخر لأنه ‘غير مشهور!’، ولم يُعلّق على الثالث. ثم ارتفعت وتيرة استهتاره بهذه الحقائق ووعي الدنيا لها فادّعى أن هذه الأمثلة ليست إلا حالات فردية، وأن أكثرية الذين قُتلوا هم من الموالين للحكومة.
لم يفكّر بشار لحظتها أنه إذا كانت أكثرية الذين يُقتلون هم من موالي النظام على حد ادعائه، فلماذا يحجب سورية عن كل وسائل الإعلام، ولا يفتح لها الأبواب كي تُسجّل بالكلمة والصورة كيف أن الشعب يُمارس حرب الإبادة ضد الحكومة ‘المسالمة’ ورجالاتها؟ أليس من مصلحته ومصلحة نظامه في هذه الحالة أن يُبادر هو ـ لا الجامعة ـ إلى المطالبة بإيفاد مراقبين، ويُسارع الى توقيع بروتوكول يُنظم هذه العملية دون وضع العراقيل والشروط التي لا يرمي من ورائها غيرالعرقلة والتسويف؟
ثم، إذا كان الشعب السوري إرهابيا ومتآمرا وهو الذي يقوم بعمليات القتل الجماعي، فماذا يقول النظام في وصف أولئك الذين التزموا بالمشاركة في الإضراب ـ وهو بالمناسبة تعبير سلمي بأسلوب سلبي ـ حين اكتفوا بإغلاق محلاتهم ولزموا بيوتهم تجاوبا مع نداء اللجان التنسيقية، على الرغم من إقدام عسكر بشار وشبّيحته على كسر أقفال المحلات لإرغام أصحابها على الإسراع بفتحها كي لا يجري نهبها، فهل يُعقَل أن يكون الشعب إرهابيا ومتآمرا لمجرد تجاوبه مع نداء الإضراب؟
إضافة لكل ما تقدّم، تبدو النقطة الأبرز في نظر العالم أن الفضائح التي تضمنتها أجوبة بشار في هذه المقابلة ـ وغيرها من المواقف ـ تكاد لا تُحصى، ولا يجرؤ على التفوّه ببعضها حتى الفاقد لنصف عقله .لذلك فمهما حاول النظام ترقيع ما ورد على لسانه لن يُفلح في إخفائها، حتى لو أعاد فبركتها بالكامل، بل سيغوص أكثر في عملية التضليل والتعالي الكاذب، كقول المتحدث باسم الخارجية السورية ردا على تعليق الناطق باسم الخارجية الأميركية ‘ .. إذا أراد المسؤول الأميركي، فإنه لدينا معهد لتدريب الدبلوماسيين ويمكننا أن نعطيه دروسا.
السؤال الملحّ الآن: وماذا بعد، وكيف سيكون الحل؟
في محاولتها الإجابة على ذلك تروّج أبواق بشار نقلا عن لسانه أن الثورة ستستهلك ذاتها وسيصيبها الإرهاق مع مرور الأيام، وأن الجيش سيبقى مواليا له، ويتناسون أن أجهزة بشار القمعية باتت تجهد بكل الوسائل كي لا تنتقل مشاهد حمص وحماة ودرعا إلى قلب العاصمة وأحيائها.
ويقول آخرون بأسلوب ‘المحايد’ الحريص على البلد بأهله ونظام حكمه معا، أن توازن الرعب بين المتصارعين يفتح باب استمرار الوضع على حاله إلى ما لا نهاية. ويخلصون من وراء ذلك إلى أنه لابدّ من إيجاد حل متوازن في المقابل يستند إلى مقولة ‘العفو عمّا مضى’، ويتناسون أنه لا يمكن المساواة بين المجرم والضحية.
وليس بعيدا عن هذا الطرح يخرج علينا بعض قادة المعارضة كرئيس المجلس الوطني السوري بتصريحات متشعبة ومختلفة الصياغة لكنها تصبّ في نفس السياق. فهو لا يريد التدخل الخارجي، ولا يريد في الوقت نفسه أن يُواصل الجيش السوري الحرّ تصدّيه لآلة النظام. وعندما يُعرب عن تخوّفه من الحرب الأهلية يُقرن كلامه بالدعوة الى حلّ سلمي (بين النظام وضحاياه). ومع أن أبرز نشاطاته تنحصر في سفرياته المستمرة والتنقّل بمؤتمرات مجلسه من بلد لآخر، إلا أنه لم يتمكن حتى الآن من تحقيق إنجاز عملي يُذكر، لا لجهة توحيد قوى المعارضة أو توسيع دائرة الإعتراف بها، ولا على صعيد تحصيل قدر من الدعم للضحايا وأسر شهداء الثورة .. إلى آخر المهام التي يُفترض أن ينجح في بعضها أو واحدة منها على الأقل، وهو ما دفع البعض إلى التقوّل أنه أصبح حجر عثرة في طريق معارضي الخارج والداخل في آن.
ولكن هذه الأطروحات وما شابهها لا تعكس وجه المعارضة الفاعلة التي تمثلها ثورة شعبنا في الداخل، وما على الباحث عن الحقيقة إلا متابعة سير ما يجري يوميا لجهة تصاعد فعل الثورة، إلى جانب اتساع دائرة انشقاق الأحرارعن جيش ومؤسسات النظام، حتى يرى الوجه الحقيقي الذي لا يريد أن يعترف به النظام، ولا أن تحسم أمرها تجاهه جامعة الحكام العرب.
‘ كاتب سوري يقيم في باريس
القدس العربي