صفحات الرأي

في ترجمات تودوروف إلى العربية/ جمال شحيّد

 

 

في 7 شباط /فبراير 2017 توفي تزفيتان تودوروف في باريس، تاركاً لنا إرثاً أدبياً وفكرياً وألسنياً عميقاً ورصيناً. وتأثر النقد الحداثي بكتب تودوروف الـ 44 التي صدرت بين عامي 1965 و2017. وإذا استعرضنا بعضها نجد أنها قدّمت الشكلانيين الروس للنخبة الأدبية الأوروبية، ولا سيما كتابيه “نظرية الأدب، نصوص الشكلانيين الروس” (1965) و”ميخائيل باختين، المبدأ الحواري” (1981) اللذين أثرا في النظرية الشعرية في أوروبا الغربية.

كذلك اهتم تودوروف بالذاكرة التاريخية، لا سيما ذاكرة الشعوب التي تعرّضت للغزو والاستعمار، وفصّلها في كتب عديدة، منها: “اجتياح أميركا. مسألة الآخر” (1982) و”سرديات أزتيكية عن الغزو” (1983، وكتبه مع جورج بودو) و”نحن والآخرون” (1989).

وانخرط أيضاً تودوروف في تعرية العولمة المظفرة التي اجتاحت الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لا سيما كتاب “أخلاقيات التاريخ” (1991) و”الإنسان المُغرَّب” (1996) و”الفوضى العالمية الجديدة: تأملات أوروبي” (2003) و”الهلع من البرابرة: خلف صِدام الحضارات” (2008) و”التجربة الشمولية. البصمة البشرية” (2010) و”أعداء الديموقراطية الحميميون” (2012).

وهناك جانب مهم عند تودوروف لم يهتّم به العرب، ويشمل دراساته عن الفنون التشكيلية ومنها “مديح الحياة اليومية: محاولة في الرسم الفلامنكي إبان عصر النهضة” (2000) و”الفن أو الحياة: حالة رانبرانت” (2008) و”غويا في عتمة عصر الأنوار” (2011)، والكتاب الأخير الذي صدر قبيل وفاته وهو “انتصار الفن. الثورة والفنانون. روسيا: 1917-1941” (2017). هذا طبعاً إلى دراساته الأدبية الكثيرة، ومنها “الأدب والمعنى” (1967) و”مدخل إلى الأدب العجائبي” (1970) و”شعرية النثر”، و”ماهي البنيوية؟ الشعرية” (1977) و”نظرية الرمز” (1977) و”الرمزية والتأويل” (1978) و”أنواع الخطاب” (1978) و”نقد النقد” (1984) و”فكرة الأدب ومحاولات أخرى” (1987) و”الأدب في خطر” (2007). والملاحظ أن معظم هذه الكتب قد صدرت في الثلث الأخير من القرن العشرين، كأن تودوروف قد قال كلمته الأدبية ثم انتقل إلى مواضيع العالم المعاصر التي كان يهجس بها قبيل وفاته.

ماذا نقل العرب من أعمال تودوروف؟ من الـ 44 كتاباً ترجموا 21 كتاباً وربما أكثر من ذلك بكتاب أو كتابين. واللافت أن 13 ترجمة تناولت الأدب والشعرية والسرديات والدلالة الألسنية الحديثة والأجناس الأدبية، أما التسعة الباقية فاهتمت بكتب العالم المعاصر ومشاكله ومنها “الخوف من البرابرة” [مشروع “كلمة”، ترجمة جان ماجد جبور، 2009] و”فتح أميركا” [ترجمة بشير السباعي، دار سينا للنشر، 1993] و”روح الأنوار” [ترجمة حافظ قولبة، دار محمد علي الحامي في تونس، 2007]، و”النظام العالمي الجديد” [ترجمة وليد السوركي ومحمد ميلاد، دار الحوار في اللاذقية، 2006] (“اللانظام العالمي الجديد – تأملات مواطن أوروبي”، ترجمة محمد ميلاد، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2006) و”نحن والآخرون” [ترجمة ربى حمود، دار المدى، 1999] و” تزفيتان تودوروف – تأملات في الحضارة والديموقراطية والغيرية” [ترجمة وإعداد محمد الجرطي، وزارة الثقافة القطرية، 2014[1]]، واللافت أن العرب لم يترجموا كتاباً واحداً من أعمال تودوروف عن الرسم والفنون التشكيلي. كذلك لم يترجموا النصوص الأخيرة التي كتبها تودوروف بعد عام 2010، مما يدل على أننا متأخرون عن الركب بسبع سنوات.

والحق يقال إن العرب قد اهتموا بتودوروف أكثر من غيره من المفكرين الأوروبيين المعاصرين: بيير بورديو [15 كتاباً من أصل 29]، جيل دولوز [17 من أصل 31]، جاك ديريدا [11 أو 12 من أصل 84] وبول ريكور [24 من أصل 41]… والسبب على ما أعتقد هو أن تودوروف هرب من بلغاريا الشمولية ولجأ إلى فرنسا وتعاطف مع شعوب العالم الثالث وانتقد هيمنة العولمة الرأسمالية. ومع أن بيروت هي عاصمة النشر في العالم العربي، إلا أن الدول المغاربية المنفتحة على الثقافة الفرنسية أكثر مما هي عليه في المشرق العربي، ما عدا لبنان، هي التي قدّمت بخاصة هؤلاء الكتّاب إلى القارىء العربي.

إذا نظرنا إلى دقة هذه الترجمات – ولا تستقيم الترجمة إلا إذا كانت الدقة في أحسن أحوالها – لرأينا أنها متفاوتة. فإذا رجعنا إلى كتاب “الأدب والدلالة” الذي ترجمه محمد نديم خشفة عام 1996 لمركز الإنماء الحضاري (في حلب)، لوجدنا أن الكلمات الفرنسية أو أسماء العلم مكتوبة بشكل تقريبي وخاطىء. ويبدو أن الناشر لم يميّز بين e و é و è. هذا إلى جانب المصطلحات المغلوطة. لقد تُرجمت كلمة déformation  بـ “تفتيت” وليس بـ “تشويه” [ص 35]، وتُرجمت كلمة paradigme بـ “جدول” وليس بـ “نموذج” [ص 52]، و statut بـ”وضعية” [أي أن تكون جالساً أو واقفاً أو متثائباً…] وليس بـ “وضع” [ص 102]. هذا بالإضافة إلى نقل خاطىء وسخيف لبعض العناوين: مثلاً theorie de la litterature [ص 55] وtheorie dela litteratune [ص 64]، و Temps et roman [ص 77]. كأن المترجم يتبنى المقولة الشعبية “كله عند العرب صابون”. مسكين أنت يا تودوروف، كم نكّلوا بك!

أما ترجمة “نقد النقد” لسامي سويدان فهي أكثر دقة وأمانة وتتمتع بروح علمية أكاديمية. لقد وضع المترجم مقدمة مكثّفة لكتاب تودوروف بـ 9 صفحات، ثم أرفقها بملاحظات تتعلق بالترجمة جاء فيها: “ولأن الترجمة ليست أمينة للمعنى وحسب، وإنما أيضاً للصياغة الأسلوبية والشكلية التي تميّزه، بحيث لا يعود هنا من مجال للحديث لا عن طريقة يوحنا بن البطريق ولا عن طريقة حنين بن اسحاق، فقد حاولنا قدر الإمكان المحافظة على السمة (والنكهة؟) الخاصة للتعبير والأسلوب بقدر ما تتيح  العربية ذلك. فلن تعدل بنية التراكيب والصيغ والصور وترتيب المفردات التي تشكّل ميزة أسلوبية خاصة بالكاتب حين كان الأمر متاحاً ولا يخلّ بأصول الترجمة. إذ ليست الترجمة استهانة بالنص الأصلي وتجاوزاً لخصائصه المميزة، بل إنها على العكس جهد صادق وكفوء لصوغ النص الأصيل على حقيقته الفعلية قدر المستطاع” (ص 14).

وأدرج سويدان في آخر الكتاب جدولاً بالمصطلحات يكشف التقنية الترجمية المعتمدة. ومن خلال متابعة فصول الكتاب يخلص القارىء إلى الانطباع بأنه أمام نص متقن ترجمياً، وبأن المترجم قد أعاد النظر في ترجمته عدة مرات. فأتت أسماء العلم وعناوين الكتب دقيقة لا تشوبها شائبة. ويجب أن نعترف، مع ذلك، بأن المصطلحات الأدبية الحديثة قد تطورت بعد ترجمة “نقد النقد” عام 1986 وما زالت تتطور. فبدل كلمة الفردوية individualisme صرنا نقول الفردانية، وبدل عنوان “حفيف اللسان” صرنا نقول “هسهسة اللغة”. ولكننا نجد عناوين وعبارات موفقة، مثل “سيامة الكاتب” Le Sacre de l’écrivain [وهو كتاب لبول بينيشو]. وبما أن تودوروف كان يعرف الروسية والألمانية والإنكليزية والفرنسية، بالإضافة إلى اللاتينية، فإن سامي سويدان قد سعى لتكون الترجمة العربية موشّاة بكلمات وعبارات مقتبسة من هذه اللغات؛ يقول: “أثبتنا أسماء الأعلام وعناوين الكتب والمجلات والمقالات بلغتها الأصلية إلى جانب ما جرت ترجمته عن الفرنسية منها” (ص 14). وفي هذا الشأن، تُكتب أسماء العلم حسب لفظها في لغتها الأصلية، فـ Claude Lévi Strauss يلفظه الفرنسيون كلود ليفي ستروس (وليس شتراوس) وميرلو بونتي (وليس مرلو بانتي) وجيرار جينيت (وليس جينات) وتودوروف (وليس تودورف) وميشيل ريفاتير (وليس ميشال ريفاتار)، كما ورد ذلك في ترجمة الهادي الجطلاوي لكتاب La critique littéraire لـ Fabrice Thumered. وسأرجع إلى هذه المسألة في مقالة لاحقة، لأستوفي أبعاد المشكلة.

الكتاب الثالث الذي أود التوقف عنده هو “نظريات في الرمز” ترجمة محمد الزكراوي (المنظمة العربية للترجمة، 2012). المعروف أن هذه المنظمة قدّمت ترجمات محترمة تخضع لمراجعة وتُدقّق مضموناً وشكلاً. والكتاب مؤلف من جزئين: “نشأة الدلائليات الغربية” التي طوّرها القديس أغوسطينوس؛ ويليه فصل عن أبهة الخطابة وبؤسها يستهلّه المؤرخ اللاتيني تاكيتوس بالتصريح التالي “ازدهرت الأعصر السوالف بما لا يحصى من الخطباء الأعلام، ذوي المواهب الشهيرة؛ أما عصرنا فمن عقمه وخلوّه من ذلك المجد الخطابي كاد اسم الخطيب يطويه النسيان” (ص 87). وأورد أرسطو أن الهدف من الخطابة هو الإقناع، بتوسلها البيان والفصاحة. ويتابع تودوروف تطور الخطابة في الحضارتين الإغريقية ثم اللاتينية، وقدّمها بأستاذية لافتة، ولكنها خالية من التبجّح والفذلكة. لقد جالت صناعة الخطابة (ars oratoria) في معظم بقاع البحر المتوسط، وما زالت تلعب دوراً، لا سيما في المناظرات التي تسبق انتخابات رؤساء الجمهورية في البلدان الراقية، وليس في الانقلابات العسكرية.

ثم ينتقل تودوروف إلى فصل يتكلم عن نكبات المحاكاة (mimesis اليونانية)، ويدلف بعد ذلك إلى أزمة الرومانسية في الفكر الغربي. ويفضي من ثمّ إلى فصل أثير عنده يتعلق باللغة ومضاعفاتها وكيف تعاملت الفرويدية مع اللغة، لا سيما بعد الثورة الألسنية التي بدأت مع فردينان دي سوسور. وهنا يتوقف عند النكات وزلات اللسان والالتباس في المعنى والرمزيات في الأحلام. ويكرّس فصلاً عن الرمزية عند سوسور.

وجاءت ترجمة هذا الكتاب الموسوعي عن الرمز، ترجمة متأنية ومتقنة تبيّض وجه الجهد الذي بذله تودوروف في تحليل دلائليات الرمز. وكما درجت العادة في المنظمة العربية للترجمة، يضع المترجم ثبتاً تعريفياً بالمفردات المفتاحية، وثبتاً بمصطلحات الكتاب. ولا أشاطره الرأي في ترجمة argumentation بـ “احتجاج” بل بـ”حجاج”، ولا بترجمة arbitraire بـ “تحكمي” بل بـ”اعتباطي أو تعسفي”، ولا بترجمة allusion بـ”تعريض” بل بـ”تلميح”، ولا بترجمة identification بـ”توحيد” بل بـ”تماهي”، وأفضّل ترجمة matrice بـ”مصفوفة أو أرومة” بدل “قالب” كما اقترح الزكراوي. كذلك أفضّل ترجمة pictogramme بـ “إشارة تنبيه أو فكرة مرمزة” بدل “هجاء تصويري”. وأفضل أن أنقل اسم Apollon بـ “أبولون” وليس بـ “آفلون”. ومع ذلك تبقى الترجمة دقيقة وناجحة لكتاب صعب ويقتضي ثقافة فلسفية وأدبية ولغوية عميقة.

سِقتُ ثلاثة نماذج من ترجمات كتب تودوروف إلى العربية؛ واكتفائي بثلاثة كان تمثيلاً لا حصراً. هذا لأقول إن الترجمة أصبحت علماً دقيقاً متقناً في القرن الحادي والعشرين، وولّى عصر “الجميلات الخائنات Les belles infidèles” كما صارت ترجمات المنفلوطي وطانيوس عبده المتحررة من النص الأصلي من مخلفات التاريخ التي لا تذكر بخير في أيامنا.

 

[1] – ويتألف من قراءات مجموعة من الصحافيين لكتب تزيفتان تودوروف، وبعض المقالات للكاتب نفسه، إضافة إلى حوارات له مع مجلات وجرائد فرنسية، ويتطرق الكتاب إلى موضوعات أساسية: هي العنصرية، صراع الحضارات، الهيمنة الأميركية وإشكالات الهوية والعنصرية والمخاطر المهددة لمستقبل الديمقراطية وعلاقة الغرب بالإسلام. ويقسم إلى ثلاثة أقسام: يتناول القسم الأول كتب تودوروف، والثاني المقالات والقسم الثالث الحوارات.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى