في تكريم فايز ملص…/ حسن شامي
«ليس الآن، ليس الآن. ما زال هناك وقت. تمهّلي أيتها النفس الجامحة، أيتها القلقة لا تستعجلي الخراب والفقدان. ما زال هناك أمل ولو ضعيف في حصول استدارة ما، وثبة ما، معجزة ما».
هذا ما كنت أقوله في نفسي بعد كل زيارة لفايز الممعن في متاهة قدرية لا قبل لنا بها ولا يعرف سرّها إلا ما يفلت منه. كنت أقول هذا أيضاً كلّما ألحّت الحاجة إلى استجماع ما تفرّق من صور ولحظات ومواقف قبل توضيبها وترتيبها في سردية استذكار حميمي. أظن أنه، هو، لم يكن من النوع الذي يحبّ أن يروي سيرته أو أن تُروى سيرته. كان يكفيه أن يعيش حياته شعرياً، كسارق نار، على قول رامبو. كان يكفيه أن يقال عنه إنه وُلد وترعرع في دمشق وشرب ماء غمامها ثم جاء شاباً إلى فرنسا حيث درس وناضل وعمل وتزوج وأنجب. ويكفيه أنه واصل دربه مستضيئاً بقلبه الملتهب دفئاً وكرماً وظرفاً وغيرية وتوهّجاً إلى حدّ التلذّع أي التوقّد.
من زياراتنا المتقطعة لفايز في منفاه الصحي في السنوات الأخيرة أرجّح أننا، نحن أصدقاءه الذاهبين لتفقده، أنا وباتريك لاما وديب القرح ومحمد وهبي والصديق الحبيب بشير هلال الذي رحل قبل عام ونصف عام، حفظنا صورة معينة عما نحسبه خلاصة حياة بكاملها. إنها صورة الجمرة المتقدة أو الشعلة وهي تتهاوى في رحلتها إلى قاع المياه أو إلى أقصى المتاهة. كانت زياراتنا متقطعة ومتباعدة لأنه كان من الصعب علينا أن نواكب ابتعاده عنا وهو أمامنا. أحسب أننا كنا نفضّل أن نحتفظ بصورة الجمرة المتقدة حتى النهاية. لذا كان علينا أن ننتظر المُقدّر بعيون مغمضة ولكن ليس من دون تحسّر ووخز ضمير وشعور بالذنب والتقصير. ينبغي ربما أن أضيف أنه بدا لنا في الزيارتين الأخيرتين أكثر تصالحاً مع نفسه، مع قدره. وكان هذا انطباعي عنه خلال سنوات طويلة، أعني تصالحه مع نفسه، ليس من دون مرارة، كمعارض منفي قسراً وكرهاً. أحسب أن هذا التصالح هو تعبير عن تدجين الألم وتسييله، ومن دون أن يساوم على حقه في أن يكون حراً ومستقلاً برأيه ومسؤولاً عن قناعاته وتطلعاته إلى العدل والمساواة بين البشر.
لا أذكر متى كان أول لقاء بيننا. ليس لأن ذاكرتي وهنت، وهي ليست معصومة عن الوهن، بل لأن لا طائل من ذلك. فاسم فايز ملص كان من بين بضعة أسماء يتداولها على سبيل التندر أو السرد الاستعادي أصحابنا الذين ذهبوا إلى باريس ودرسوا وناضلوا فيها قبل عودتهم إلى بيروت. كنت أعلم إذن أن القادمين مثلي من حلقات يسارية ونشاطات مساندة للنضال الفلسطيني سيلتقون لا بدّ في باريس، عاجلاً أم آجلاً، بأصحاب هذه الأسماء. سيكون ذلك طبيعياً مثل الذهاب إلى مقهى أو الدخول إلى حديقة. وهذا مما لا يحتاج إلى مرة أولى لأنه من نسيج حياتنا. ليس المقصود بكلامي أن القضية الفلسطينية كانت فحسب خيمة لغرباء طوعيين أو مأوى لصعاليك شرفاء، فهي كانت وما زالت مجرى ومحك اختبار لقدرتنا على البناء الوطني المستقل. لكن هذا، على أهميته، لا يكفي لبناء صداقة. والحق أنني عندما تعرّفت على فايز انبسطت صداقته مثل حديقة.
نعلم وتعلمون أن هناك صداقات تنعقد على مصلحة أو منفعة وأن بعضها ينعقد على تقاسم متعة أو لذة متعلقة بموضوع أو غرض بعيــنه. هناك أيضاً صداقات تُطلب لذاتـــها وتنعقد على خصال أصحـــابها وفضائلهم، وهي أرقى الصــــداقات وفق المعلم الأول أي أرسطــــو. ومن سمات هذا النوع من الصــــداقة الجمع بين الفضائل ومتعة المجالسة والمصاحبة. أحسب أن كثيـــرين من محبي فايز يحفظون من صفـــاته المتعددة صفتين بارزتين: صفـــة المثقف العربي المناضل ضد الظـــلم والطغيان، المعارض والمنفي، وصفــة تطاول وجهاً من وجوه سلوكه وهي صفة اللوذعي. لا أخفي عنكم أنني، عندما تبادرت إلى ذهني كلمة اللوذعي سارعت، ككل المقبلين مثلي على الهرم، إلى القاموس. فوجدت في «لسان العرب» أن اللذع هو حُرقة كحرقة النار، وقيل: هو مسّ النار وحدّتها. ولذعه بلسانه على المثل، أي أوجعه بكلام. يقول: نعوذ بالله من لواذعه. أحسب أن كثيرين من محبي فايز، هنا وهناك، كانوا يقولون هذا. وجاء في اللسان أن اللوذعي هو الحديد الفؤاد واللسان، الظريف كأنه يلذع من ذكائه. ووجدت أيضاً ما يلي: لذع الطائر جناحيه إذا رفرف فحرّكهما بعد تسكينهما. أحسب أن صديقنا، بعد أن حلّق عالياً في فضاء الإنسانية الواسع صار بمشيئة القدر يلذع جناحيه داخل الفضاء الأخير وهوالمربّع الأوّل للنفس القلقة.
* ألقيت في حفل تكريمي أقيم في «معهد العالم العربي» بباريس، تكريماً لرحيل المثقف والمنفي السوري فايز ملص.
الحياة