في تكوين الثورة السورية و«طبائعها» وتحولاتها المحتملة
ياسين الحاج صالح
ليست عارضة أو خارجية العلاقة بين تكوين الثورة السورية وبين طابعها السلمي. تفجرت الثورة احتجاجاً على نمط عدواني لممارسة السلطة، لكن في انتشارها السريع إلى معظم أرجاء سورية ما يشير إلى سخط منتشر ربما يجد أصوله في ذلك التدامج المحكم بين السلطة والثروة الذي ميز عهد بشار الأسد. حكام سورية الحاليون أناس أثرياء منعمون، لديهم ثروات مهولة لم يتعبوا في تحصيلها، وينظرون إلى السلطة العمومية كامتياز ثابت وأبدي لصيق بهم، ويعتمدون في دوامه على أجهزة عنف متمتعة بالحصانة الكلية، ومتمرسة بالإرهاب. ولقد طوروا في العقد المنقضي موقفاً متعالياً على عموم محكوميهم، فباتوا يصفونهم بالحثالات والمتخلفين والمتعصبين.
الثورة اعتراض جوهري على هذا البنيان السياسي المتعجرف، الذي يعتمد على ركيزتي العنف والمال. ومن شاركوا فيها هم جمهور متنوع، مديني وريفي، متعلم وعالي التعليم، شاب وكهل، ومن الجنسين. هذا جمهور شعبي، يحفزه في احتجاجه دفاع عن حياته وتطلع إلى تحكم أكبر بها، وإلى أن تكون له كلمة في شأنه العام. وهذه تطلعات تخاطب أكثرية السوريين، متجاوزة من حيث المبدأ الفوارق الجهوية والإثنية الدينية.
نوعية المطالب الإنسانية والعامة وتنوع الجمهور المشارك في الثورة، هما ما يجعلانها على غرار الثورات المصرية والتونسية واليمنية غريبة على العنف من حيث المبدأ. الأمر لا يتعلق بدعوة إيديولوجية إلى السلمية، ولا بنزعات لا عنفية يواليها بعض السوريين، ولا بتكتيك سياسي، بل بالتكوين الاجتماعي للثورة، أو بطبائعها. وهذه الطبائع المنفتحة ذاتها هي ما جعلت الثورة غريبة على الطائفية. مطالب الحرية والكرامة لا تخص ديناً أو طائفة. ولا يتغير الأمر إذا عرّفنا هذه المطالب بلغة حقوقية أو سياسية أو اقتصادية. لا شيء خاصاً أو فئوياً أو حزبياً فيها.
ولا شيء إيديولوجياً، حين المقصود بالإيديولوجيا نسق من الأفكار والقيم موجه نحو العمل، ومزود بمبدأ اتساق داخلي يصون وحدة معتنقيه ويميزهم عن غيرهم. وتجارب القرن العشرين تؤشر إلى اقتران يكاد يكون قانوناً اجتماعياً في شأن ارتباط العنف بالنظم الإيديولوجية المحددة، وبدرجة تتناسب مع تحددها وصلابتها، أو إعلائها من شأن اتساقها الذاتي على تفاعلها مع الواقع المتغير. لطالما اعتبر التيار الشيوعي الثورة عنيفة بالتعريف، إلى درجة أن الكلام على ثورة سلمية كان يبدو تناقضاً في الألفاظ. ولعله من باب التأثر بالمثال البلشفي صار كل استيلاء بالقوة على السلطة يعتبر نفسه ثورة. ولقد كانت الثورة العنيفة إغراء للتشكلات القومية العربية، ومنها بخاصة حزب البعث الذي استولى على حكم سورية والعراق بالقوة، بعد أن كان محدود الشعبية فيهما معاً. ولطالما فاخر بعثيون على الناصريين بأنهم أكثر ثورية منهم لأن لديهم عقيدة محكمة (وليس أفكاراً «تجريبية» متناثرة)، ومعلوم أنهم بزوا النظام الناصري بالعنف. والإسلاميون مثال على اجتماع النظام العقدي المغلق والمكتفي بذاته مع النزوع المضطرد إلى العنف. والتيار السلفي الجهادي بينهم هو الأكثر حرفية وأصولية ولا تاريخية، والأكثر لجوءاً إلى العنف. ولا يشذ عن هذه القاعدة تيار المحافظين الجدد الأميركي في سنوات بوش الابن. فقد جمعوا بين تصلب العقيدة التي تتطلع إلى فرض الليبرالية عالمياً وبين الدعوة إلى ممارسة القوة الأميركية عالمياً. وقد لا يدعو مثقفون عرب، وبدرجة تتناسب مع تعريف أنفسهم بالحداثة والتنوير، إلى ممارسة العنف ضد عموم المحكومين (بعضهم يفعل)، لكنهم لا يجدون بأساً به إذا مورس ضد الإسلاميين، ومهما بلغ من قسوة.
لا شيء من ذلك في الثورة السورية، وفي الثورات المصرية والتونسية واليمنية. هذه ثورات اجتماعية مفتوحة ضد نظم سلطة وثروة مغلقة. وهي ثورات عامة ضد نظم أرستقراطية بلغت حد توريث الحكم.
ولأنها كذلك، ثوراتنا لا تمارس العنف. العنف هو منهج النخبة في الحكم، أي الأرستقراطية أو الأوليغارشية، أو «الحزب القائد للدولة والمجتمع»، أو الأسرة العبقرية، عموم ذوي الدم الأزرق الذين لا يقبلون المساواة مع غيرهم. لقد كان من أسوأ ضلالات شيوعية القرن العشرين الربط بين العنف والشعب، أو اعتبار العنف منهج الشعب في التحرر. غير صحيح. بل هو منهج «الطليعة» التي تتعالى على الشعب وتستعبده.
وتوفر طبائع الثورة، العامة والمفتوحة والشعبية، رائزاً مهماً للحكم في شأن «الأخبار» التي تتكلم على عنف أو عصابات مسلحة أو مجموعات إرهابية في سورية. هذه الأخبار تتعارض مع طبائع الثورة، لذلك فهي كاذبة. لكننا لا نستند إلى هذا الرائز الخلدوني وحده. سندنا هو السجل الواقعي بقدر ما تسمح فرص الحصول على معلومات موثوقة، مسنوداً هو ذاته بخبرة غير منقطعة بالواقع السوري وبطبائع النظام السوري. وهذا نظام نخبوي، موغل في الرجعية والطغيان. والعنف والطائفية ينبعان من تكوينه بالذات، أي من طابعه النخبوي الأوليغارشي والعنيف. لذلك مارسهما فوراً ومنذ البداية، ولذلك لم يفكر يوماً، ولا هو يفكر اليوم، بأن يحيد قيد أنملة عن نهجه هذا.
لكن متابعة السجل الواقعي تفيد بممارسات عنف من جهة منسوبين إلى الثورة ضد قوات النظام في الشهرين الأخيرين. قد يحصل ذلك دفاعاً عن النفس أحياناً، أو على يد جنود منشقين، تنحصر خياراتهم بين أن يُقتَلوا أو أن يواجهوا النظام العنيف بالعنف. لكن العنف المعارض يتجه إلى أخذ طابع نسقي أكثر وأكثر. فإذا ترسخ هذا الاتجاه، كان محتملاً أن تستقل ممارسة العنف من جهة الثورة عن مسبباتها المباشرة، وتكف عن كونها رد فعل متنحياً (فيما التظاهرات الاحتجاجية السلمية هي الوجه المهيمن) لتمسي الوجه السائد للثورة. وسيكون هذا، إن حصل، علامة طور جديد من أطوار الثورة وبطبائع مغايرة: من طور الثورة الشعبية السلمية التي تعرف نفسها بما تتطلع إليه بعد النظام من حرية وكرامة وديموقراطية، إلى طور ثانٍ، طور المواجهة بالقوة التي تعرف نفسها فقط بإسقاط النظام. وقد ينفتح هذا الطور الثاني على حرب أهلية عامة، ستكون تحقيقاً للتخيير الذي ثابر النظام على طرحه على السوريين: نحن أو الحرب الأهلية، لكنها ستكون إبطالاً نهائياً للتهديد بها أيضاً.
أما من جهة الثورة فالعنف علامة على الوضع المعضل الذي تواجهه اليوم. كي تواجه النظام بفاعلية، تجد نفسها مساقة إلى الرد عليه بوسائله. لكنها إن فعلت، هل تؤسس بديلاً متفوقاً؟