في جلباب النظام
حازم نهار
يتساءلون من أين يأتي التطرف.
من حق السوريين أن يفخروا بنظامهم الحاكم، فقد قام على مدار أربعة عقود بعدد من الإجراءات والإنجازات المهمة التي تجعل التطرف الديني والطائفية أمرين بعيدين من السوريين.
فقد قام نظامنا بفتح دور للسينما والمسرح في كل قرية وناحية، وكانت الفرق الفنية تجوب القرى والمدن السورية، حتى أن الأهالي، نساء ورجالاً، كانوا يحضرون ويشاركون ويقيمون السهرات الحوارية بعدها. كما كانت رسوم الفنانين السوريين تزين معظم شوارع المدن، وحظي الغناء والموسيقا باهتمام بالغ، حتى أصبح لدينا عدد من الهامات الغنائية والموسيقية التي زادت حياة السوريين فرحاً على فرح. وإلى جانب ذلك، قام بفتح المراكز الثقافية في جميع المدن والقرى للمثقفين والتنويريين لتقديم رؤاهم وتصوراتهم، وكذلك المؤسسات الثقافية العامة الكبرى، حتى أنه لم يمض يوم إلا وكان هناك محاضرة أو ندوة ثقافية لأحد المبدعين السوريين، كما شجع على تحويل المقاهي إلى منتديات ثقافية حوارية. من هنا كان الإنتاج الثقافي هائلاً، لتتحول دمشق إلى مأوى لكل كاتب ومثقف هارب من جور الأنظمة الأخرى.
وحرصاً منه على تمتع المواطن بالذوق الرفيع، اهتمّ بالجانب الجمالي الذي يغذي الروح والعواطف النبيلة، فكانت مخططات المدن تجري وفق الأنظمة العصرية بحكم اختيار رؤساء البلديات والمحافظين من ذوي الكفاءة والخبرة والمشهود لهم بنظافة اليد وحب الوطن، وأعيدت لغوطة دمشق سمعتها البهية، وبنى الحدائق في كل المناطق، وبنى مساكن لائقة بدلاً من العشوائيات التي تشكل بيئة خصبة للتطرف. ولذلك كان السواح يتوافدون من جميع بلدان العالم إلى سورية، حتى أننا كنا نشاهد آلاف البشر متجمعين أمام متاحفنا الوطنية.
أما دور العبادة فتحولت في عهده إلى مراكز يتداول فيها السوريون شؤون الدنيا ومشكلاتهم الحياتية، ويبنون نظماً للتكافل الاجتماعي، وقام على رأسها رجال دين مخلصون ومتنورون ساهموا بفعالية في نشر القيم الأخلاقية والاحترام المتبادل بين البشر وإعلاء قيمة الإنسان. وكانت مادة التربية الدينية في المدارس تقدم بأسلوب شيق لتربية الضمير الإنساني ومكارم الأخلاق والحب والتسامح وقيم العدل والإخاء والمساواة، أما كلية الشريعة فحولها إلى كلية العلوم الدينية التي ساهمت بتخريج شخصيات أتقنت مقاربة النصوص الدينية مع الواقع المتغير، مما أعطى الدين حيوية واقعية لا تقف عند ممارسة الشعائر فحسب.
وفوق كل ذلك، كانت المدارس تفسح المجال لتربية العواطف والروح الإنسانية لدى الأطفال والشباب، وكان هناك اهتمام كبير بحقوق الإنسان في المناهج التعليمية. كما شجع المبادرات الطوعية لتشكيل فرق الكشافة، ولم يخلق منظمات لحشرهم وتربيتهم على النفاق والدجل والتصنع بما يفقدهم العفوية كما هو حاصل في أماكن عدة. وكان للطلبة في الجامعة دور مهم في صوغ السياسات العامة، خاصة بعد أن حولها إلى مصنع للثقافة والعلم، فكانت خلية نحل في عقد الندوات الثقافية والأمسيات الأدبية والشعرية والفنية، وكانت كتب الجامعة تغير سنوياً انسجاماً مع التسارع في العلم، ووضع برنامجاً حقيقياً لمحو الأمية التكنولوجية، لتتحول الجامعة في المآل إلى حرم مقدس في الذهن العام.
أما الصحافة والإعلام فحدث ولا حرج، إذ فتحت مئات الجرائد والمجلات الثقافية والسياسية المستقلة والمتنوعة التي فتح أبوابها لأصحاب الرأي، وشجعت الشباب على المشاركة، وظهر عدد غير قليل من المحطات التلفزيونية الخاصة، وخصص التلفزيون السوري برامج متنوعة يقدم فيها المفكرون وأساتذة الجامعات رؤاهم وتصوراتهم في كل شيء، ولم ينس التلفزيون الرسمي تخصيص برامج علمية شيقة حول التربية السليمة للطفل، وتنمية الثقافة الديمقراطية.
وفي المجال القانوني، حول النظام السوري الدستور إلى ثقافة عامة، لدرجة أن جميع المواطنين كانوا يعرفون حقوقهم وواجباتهم، فلا يتهاونون بحقوقهم ولا يقصرون بواجباتهم. ولم يكن العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية والاستثنائية سارياً كما في بلدان عديدة، وأولى اهتماماً كبيراً بالمرأة التي حصلت على كافة حقوقها، ووفر قضاء عادلاً ونزيهاً ومستقلاً عن السلطة وأجهزة المخابرات، ولم يحدث أن استطاع شخص ما إرغام القضاء على حكم معين، كما لم يتمكن أحد من العثور على قاض فاسد.
حظيت بلادنا بنظام ديمقراطي راسخ، يقوم على تعددية حزبية حقيقية تتنافس فيها الأحزاب سلمياً، وكثيراً ما أرغم البرلمان وزراء في الحكومة على الاستقالة، لا لفسادهم، بل لتقصيرهم في واجباتهم، كأن يحضر أحدهم لمكتبه متأخراً لمدة ربع ساعة، أما حالات الفساد فلم تعرفها سورية في عهد النظام. وما كان أعضاء البرلمان المنتخبون بشكل حر ومباشر يتابعون أحوال المناطق التي انتخبتهم باستمرار، ولم يكونوا مجرد مصفقين وموالين لأجهزة أمنية ونظام حاكم كما في البلدان. أما نظام الحكم فكان جمهورياً يترشح فيه عدد من الأشخاص لمنصب الرئيس، فقد أصبح رئيس الجمهورية مجرد موظف خاضع للمساءلة والرقابة الشعبية، حتى أننا لم نكن نجد صورة له في أي مكان. وقام النظام كذلك بتطبيق برنامج سياسي اجتماعي متكامل للاندماج الوطني بحيث تكون “الوطنية السورية” هي المنطلق والمستقر، واستثمار التنوع في بلدنا بشكل إيجابي، للحد من العلاقات الطائفية والعشائرية والعرقية التي يمكن لها أن تفتح المجتمعات على المجهول، جاعلاً من “المواطنة” المبدأ الأساس في المجتمع.
وكانت هناك حالة من الازدهار الاقتصادي المضطرد، وفق أحدث القوانين والأساليب الإدارية والمالية، مما حول الفساد إلى ظاهرة نادرة الحدوث، وساعد في ذلك أن النظام لم يسمح لأي من أقاربه بالاستيلاء على ممتلكات أحد أو الجور عليهم أو الحصول على امتيازات خاصة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل استقدم النظام السوريين في الخارج، وأتاح لهم مناخاً مناسباً للعمل ليشاركوا في تنمية بلدهم، وارتفعت مستويات الإنتاجية، بخاصة أن تكافؤ الفرص ومعيار الكفاءة كانا أساس التوظيف والعمل، وهذا كله أدى إلى انخفاض نسبة الفقر إلى الحد الأدنى، وتراجع نسب البطالة، حتى أن الدولة تكفلت بتقديم إعانات مالية للعاطلين من العمل لحين توفير فرص لائقة بهم.
وحرصاً على الوطن، بنى جيشاً وطنياً حرفياً يحسب له ألف حساب، لا تستطيع عدوتنا التاريخية “إسرائيل” مجرد التفكير بتخطي حدودنا، بل إنه أجبرها على التراجع من معظم الجولان المحتل، ولم يبق سوى بعض القرى المعدودة، وها هو اليوم يعد العدة لتحريرها بالكامل. جيشنا راع للديمقراطية في البلد، ولذلك كانت ثكناته خارج المدن السورية، وكان الذهاب للخدمة العسكرية مصدراً للشرف والفضيلة. أما الأجهزة الأمنية فكانت مهنية وتخضع للقانون والمساءلة في البرلمان، وهدفها حماية الوطن من الأعداء، وليس عد الأنفاس على المواطنين واعتقال أصحاب الرأي، وتطبيقاً لشعار “الحرية” المرفوع أغلقت جميع السجون والمعتقلات.
وعندما قامت “ثورة” ضد نظامنا العتيد، استغرب الشعب السوري في معظمه، لماذا تقوم ثورة في بلد هذه هي مواصفاته. ومع ذلك كان النظام طويل البال وفتح الساحات للتجمع، وسمح لوسائل الإعلام ولمنظمات حقوق الإنسان بمتابعة ما يجري، ولم يقم بإزعاج المتظاهرين بكلمة، وكان حرصه شديداً عليهم لدرجة إرسال سيارات الإسعاف والأطباء تحسباً لأي مكروه. لكن برزت أحياناً بعض حالات الشغب، فقامت الشرطة برشهم بالماء، وسرعان ما اعتذر النظام في اليوم التالي، أما الأجهزة الأمنية والجيش الوطني فكانوا يراقبون الحدود خوفاً من استغلال أعدائنا للأحوال في البلد.
من حقكم أن تفرحوا أيها السوريون بنظامكم، فقد عشتم في بيئة لا تنتج تطرفاً ولا تكفيريين، بل عليكم أن تقفوا اليوم صفاً واحداً مع النظام ضد “المؤامرة” و”المتطرفين” و”التكفيريين”.
يا لكم من متقاعسين ومتشاكين، ماذا تفعلون لو أن نظامكم كان كتلك الأنظمة التي انقرضت منذ زمن بعيد، فقام بتوجيه رصاصه إليكم ودكّ مدنكم وقراكم بالصواريخ والمدافع والطائرات؟ ماذا تفعلون لو ارتكب نظامكم مجازر تلو مجازر بعناوين طائفية وغير طائفية؟ ماذا تفعلون لو استقدم قوى الشر الطائفية من خارج الحدود لقتلكم وتشريدكم، ماذا تفعلون لو أن نظامكم كان متورطاً لرأسه بإنشاء الجماعات المتطرفة للاستخدام المحلي والخارجي؟
عودوا إلى رشدكم، ولا تتطرفوا.
استمعوا إلى “نخبكم” الثقافية والسياسية التي رسمت لكم منذ البداية “وصفة سحرية” للحل، وأهدتكم بوصلة وطنية تهتدون بها، وابحثوا عن منابت التكفير والتطرف والطائفية في أنفسكم. فالتطرف لم يكن يعيش، دائماً وأبداً، في جلباب نظامكم، كما يرى “المغرضون”، وأنا منهم.
المدن