في جهاز مراقبة الأحلام/ منصف الوهايبي
كان صديقي الذي قاسمني السكن في الشقة التي استوطنا منذ كنا طالبين في الجامعة، أواخر الستينيات؛ يبحث منذ أربعين سنة عن شيء يخترعه، فلم يفلح؛ وأنا أقول له: «يا صديقي، ماذا تريد أن تخترع؟ لم يترك الأمريكان ولا الصينيون ولا اليابانيون شيئا إلا اخترعوه»؛ وهو يعاند: «إلا هذه! إلا هذه»؛ «وما هي هذه؟». يوقظني هذا الفجر، وهو يهمس بصوت مكتوم، يكاد ينفجر: «وجدتها! وجدتها!».. ينشلني من نومي إلى غرفته. يجلسني إلى شاشة حاسوبه، وهو يشد أسلاكا مختلفة الأحجام والألوان إلى أطراف أصابعي وأذني وطرف لساني وأنفي وحول عينيّ.. ينقر على الحاسوب وهو يقول لي:»انتبه يا ولد»..المشاهد تتعاقب على الشاشة مضطربة مشوشة، ثم تستوي صافية نقية جلية؛ فإذا هي نُتَفٌ من أحلامي التي حلمت البارحة وأنا في محطة حاجب العيون.. أشكو إلى صديقي ضعف ذاكرتي، فقد كنت على كثرة ما أحلم، لا أجد لأحلامي أثرا إذا استيقظت، إذْ سريعا ما تتلاشى كلما صحوت؛ وهو يقول لي شارحا مفسرا: «طاقة التخزين ضعيفة؛ ذاكرتك مثل ذاكرة الحاسوب القديم».. أزعق، وأنا أرى من أحلامي مشاهد حميمة: «أطفئ الحاسوب! أنت تحشر أنفك في ما لا يعنيك!» يفك الأسلاك عن أطرافي: «أستطيع أن أعود بك إلى أحلام الأعوام التي مضت، وربما إلى أيام الحمل وأنت في أحشاء أمك»؛ وأنا أثنيه وأصب الماء على ركبتيه: «هذا اختراع فاشل.. جهاز مراقبة الأحلام.. لا يبل ولا يعل»؛ وهو يعاند ويكابر: «ما رأيك في برنامج تلفزي على المباشر، نعرض فيه للناس أحلام حكامهم ومشاهيرهم؟ بماذا يحلم السيد الرئيس هذه الأيام؟ بعرش بورقيبة؟ أو بماذا يحلم الشيخ؟ بدوام التوافق بين النداء والنهضة؟» بماذا يحلم التونسيون أحفاد السوريين.. سليلُو القرطاجنيين.. الشعب الملاح التجاري الفلاحي؟ التونسيون مثل السوريين أجدادهم «يحرقون» إلى إيطاليا.. ومنها إلى أوروبا.. يعيشون الآن مثل فزاعات الحقول، في أسمال الروبافيكا (الملابس المستعملة)؛ في «دفيئة زجاجية» وقد أُديرَتْ أسماعهم إلى الداخل؛ فلم يعودوا يصغون لإيقاع الحياة خارج الكرة الزجاجية التي حُشِروا فيها.
والعم مخلوف حارس العمارة، يقول لي: «لا تصدق الحكاية»؛ وأنا أسأل مَنْ أَوْكل إلى العم مخلوف مهمة الحراسة، بدون أجر أو مقابل؟ لعله كان قانعا من ذلك كله بالغرفة المهملة التي تأويه هو وزوجته، غرفة بدون مرحاض؛ وأنا لا أجرؤ أن أسأله أين يقضيان حاجتهما؛ وصديقي يقول لي:»عمك مخلوف وامرأته من جنس الملائكة؛ والملائكة لا تأكل ولا تبول ولا تتغوط»؛ وأنا أعاند: «ولكنهما يأكلان!» وهو لا يراجع ولا يتراجع: «إذن، فهُما نصف ملائكة».
٭ ٭ ٭
قالت زوجتي مستغربة «أنظر.. ما هذه الغربان السود؟» قلت «أي غربان؟» قالت «تلك» وأشارت إلى السباسب البعيدة حيث كانت الريح تلوي الأكياس السود العالقة بالحشائش والأشواك الجافة.. ضحكت وأنا أقول «هذه غربان الساشيات (الأكياس البلاستيكية)».. كانت الجغرافيا التونسية ترسم تضاريسها وتقلباتها العجيبة.. جبال صفر.. حمر.. رمادية.. صورة السراب أو وهم الماء.. أشبه في وحشتها بظل خيالي رجراج.. ولا أثر فيها إلا لبضع بيوت طينية أو من الآجر الأحمر.. منصوبة في العراء ولفح الشمس.. وبضع أغنام وجمال كأنها تزحف أو تنسل كالزواحف.. ونباتات جافة سرى فيها الملح والرمل.. جبال جرداء موحشة.. ربما انحفرت في بعض منحدراتها بئر، أو ما يشبه البئر المعطلة التي غار ماؤها وكسته الطحالب.. ربما كانت هذه البلاد.. في بواكير الأبدية.. هذا الجنوب المنسي.. بحرا لم يبق منه غير ماء آسن، وسراب مترقرق كهذا الذي يكسو أرجاء الصحراء.. ويعلو حواشيها.. بريق تركض به البيداء.. تغرق فيه الكثبان وتنحسر.. تتبدى الهضاب وتتوارى.. في قليل من الماء.. يلوح من بعيد كماء الغُسْلِ.. النبات الذي كان من عادة العرب أن يضيفوه إلى الماء، عند الاغتسال.. أو ماء السخْد الأصفر الذي يخرج مع الجنين عند الولادة.
قطعنا الطريق، وأنا أروي لها كيف كانت مدن الحوض المنجمي مدنا متوسطية حية نظيفة.. قبل الاستقلال عام 1956. كان في المناجم تونسيون وفرنسيون وجزائريون وسودانيون. وكان في كل مدينة قاعة سينما وجمعية رياضية وملعب تنس.. ومرافق حديثة عامة.
٭ ٭ ٭
على الرصيف أمامي رجل ضرير، يريد أن يجتاز الطريق، فيقرع الطوار بعصاه، والمترجلون يمرون والسيارات تمر، ولا أحد يبالي؛ ثم يجازف، ولكنه سرعان ما يتراجع، وقد ارتفعت أصوات المنبهات محذرة؛ ويلوح بعصاه البيضاء، بدون جدوى؛ وظل على حاله، يذرع الرصيف عشرين خطوة شرقا، ثم عشرين غربا، لا تنقص ولا تزيد، كأنه يعدها، معي، عدا؛ ويبدو أن قدميه لم تكونا مرتاحتين في حذائه الشتوي، فقد توقف وانحنى يفك الأربطة المشدودة شدا محكما؛ وعاد يقرع الطوار، والمترجلون يمرون والسيارات تمر، ولا أحد يبالي؛ وواربْتُ بابَ المكتب ورائي وخرجتُ إليه، ودنوتُ وقلتُ: «هل أستطيع أن أساعدك؟»؛ واستدار ناحيتي وهو يقول: «أخيرا، ثمة من رآني! يبدو أنْ لا أحد يرى أحدا في تونس اليوم!»؛ ثم سوى نظارتيه السوداوين السميكتين؛ وأخذتُ بيده اليسرى، وأنا أومئ للسواق، وهو يسب سبا مقذعا، لم أسمع له مثيلا، ولا أدري من أين استلهم مفرداته وتعابيره؛ حتى ندمتُ على فعلتي، وكدت أخلي سبيله في وسط الطريق؛ ثم فجأة، فك يده من يدي، وطوحتُ في الفضاء عاليا عاليا، حتى خلتُ أني سأبقى معلقا، ولن أبلغَ الأرض مهما سقطتُ؛ حتى سمعتُ رأسي ترتطم بالإسفلت، فأدركت، قبل أن يُغمى عليّ أن سيارة قد أصابتني؛ ثم شممتُ عطرا نسائيا رخيصا، سافر بي إلى سنوات الجامعة، في محطات الحافلات، ففتحتُ عينيّ، ولكني لم أر شيئا، ثم أغمضتُ وفتحتُ، ولكني لم أر شيئا؛ وسمعتُ الرجل الذي أسندني إلى حائط البلفيدير يقول:»هل أنت بخير؟ الرجل الذي جاء يساعدك، أخلى سبيلك بين السيارات، ونجا بجلده»؛ ثم وضع على عيني نظارتين سميكتين، وهو يقول: «أنت محظوظ، نظاراتك لم تتكسر… خذْ عكازك، وسرْ إلى… سياج الحديقة، ولا تقطع الطريق وحدك».
٭ ٭ ٭
استأجرت شقة في ضاحية الزهراء، جنوب مدينة تونس؛ كان صديقي مخترع «جهاز مراقبة الأحلام» قد دلني على صاحبها.. تقع في الطابق الرابع والأخير من عمارة، من بين عشرات العمارات التي تتشابه، ولا تختلف في شيء؛ حتى السكان كانوا متشابهين. وكان يعسر عليّ أن أميز أو أفرق، وأنا الذي لا أرفع بصري إلى الناس. وكنت، وأنا أعزب، حينها، لا أعود إلى البيت إلا في ساعة متأخرة من الليل. في تلك الليلة من شهر أكتوبر/تشرين الأول، وأنا دفآنَ، لا أشعر بالبرد، فقد تعشيت فوق الشبع، وشربت فوق الثمالة؛ كان الطقس باردا جدا، لأني رأيت الناس يرتجفون وقد تدثروا، والثلجَ يغطي شوارع المدينة؛ فتسكعت في الأنهج والساحات حتى فاتني قطار السفرة الأخيرة؛ فعدت إلى المطعم ثانية؛ فلما انقضى من الليل أكثره، خرجت أبحث عن تاكسي. وحشرت نفسي إلى جانب السائق: «إلى الزهراء».. سان جرمان كما كانت تسمى زمن الحماية الفرنسية؛ وقد رسمها السويسري الألماني بول كلي عام 1914 في إحدى أجمل لوحاته؛ والسائق يسأل:»هل نسلك طريق الوردية أم مقرين؟»، وأنا أجيب: «كل الطرق سالكة خالية في هذا الوقت، خذ الطريق التي تريد»، وهو يقول: «طريق مقرين لا تخلو أبدا من دوريات الشرطة»، وأنا أقول: «وما لي؟ وهل أنا الذي أسوق؟» وهو يضج بالضحك والسعال، لا يكف عن الكلام؛ وقد كب وجهه على المقود، حتى خُيل إليّ أنه ميت، لا محالة، من شدة الضحك وشدة السعال؛ فلما هدأ واستكان سألني:»لا بد أن لك في البيت امرأةً تنتظرك؛ المال والأبناء زينة الحياة الدنيا»؛ وأنا أصحح: «المال والبنون… البنون»؛ فلما بلغتُ سكناي، نقدتُه وسحبتُ نفسي إلى نسيم بارد مس عظامي، وانصرفتُ، وهو ينادي: «وصاحبك الذي ينام في الكرسي الخلفي، هل نسِيته؟»؛ وأفتح باب السيارة مذهولا، وهو ينفجر ضاحكا: «ولكنك ركبتَ وحدك، هل نسِيت؟»؛ وأصعد المدارج على مهل؛ وأدلف رأسا إلى المطبخ، وقد جف ريقي من العطش؛ فكلما شربت ازددتُ عطشا!
ويسألني صديقي ونحن نشاهد هذه الأحلام في جهازه : «هذه الأحلام تصلح أن تكون سيرة ذاتية.» وصوت سائق التاكسي يتردد في أُذني: وصاحبك الذي ينام في الكرسي الخلفي، هل نسِيته؟»؛ وأنا أسأل: «ومن يكون صاحبي؟ وقد ركبتُ وحدي»؛ وهو يشير: «وهذا الذي ينام هنا؟»؛ وفتحتُ باب السيارة، وسحبتُ الرجل الذي تكوم؛ والسائق يمضي في صخب، يسعل ويضحك، وقد كب وجهه على المقود؛ ونظرت حولي، وأدركتُ أن التاكسي لم يحط بي في ضاحية الزهراء؛ والرجل يسألني: «من أنت؟ وأين نحن؟ ولماذا جئتَ بي إلى هنا؟»… ومنذ ثلاثين سنة، وأنا أرج رأسي، فيترجرج مخي مثل بيضة فاسدة في قشرتها؛ والرجل صار يلازمني مثل ظلي.. ويناديني: «يا صديقي».
٭ كاتب تونسي
القدس العربي