صفحات سوريةنجاتي طيّارة

في حاجة الثورة السورية إلى قيادة/ نجاتي طيّارة

 

 

إذا القوم قالوا من فتى؟ تلك الصيحة التي أطلقها طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة، أظنها ما زالت تتردد في مخيالنا الجمعي، وتكمن خلف معظم أزماتنا وانحداراتنا، على الرغم من مضي القرون وتغير العصور. هي الصيحة التي تنادي القبيلة بها البطل، وتبحث عن المخلص الذي يخال أنه معني وحده، فلا يكسل ولا يتبلد، ويسارع إلى نجدتها وإنقاذها من محنتها، ورد الغزو والعدوان عنها.

وإذا كان فتى القبيلة، في ذلك العصر، هو البطل الفرد والمحارب الصنديد، فهو، في عصرنا، الزعيم والقائد الملهم، والأمين العام، والأمير أو الملك، والرئيس أخيراً. فمجتمعاتنا، كما أرى، لم تنجح، حتى تاريخه، في تجاوز تلك الصيحة. وبالتالي، في تكوين آليات جماعية مستقرة، تعبّر عن العقد الاجتماعي، وتكفل لها التضامن والحماية وتوليد قيادات، تتداول المسؤولية فيما بينها بيسر وسلام. فتبرز الزعامات الجديدة، وتقود بلادها فترة، ثم تنزاح دورياً، كما يحدث في بلدان الديمقراطيات المعروفة. في المقابل، تستمر لدينا الأزمة التي كان قد كشف عنها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، عندما تفاجأ الأنظمة بمرض حاكم أو موته، فتشتغل ظاهرة الاستيلاء، أو اللجوء إلى التمديد، أو التوريث، أو إلى أزمة معلقة، كما هو واضح في أزمة الرئاسة اللبنانية المستمرة، أو في إعادة انتخاب الرئيس الجزائري شبه العاجز.

لا ينطبق ذلك على أنظمتنا العربية، بل على نخبنا السياسية والثورية أيضا، ولعلها للمفارقة أكثر تجسيداً له، ما يظهر جلياً في تاريخ المعارضة السورية القريب العهد. بينما يفترض بها أن تتحلى بأرفع قيم الديمقراطية، رداً على مفاسد النظام الذي ثار عليه الشعب وطالب بإسقاطه، وأولها صلاحيات الرئاسة الوراثية وشبه المطلقة! في هذا الصدد، كانت أولى شعارات الثورة السورية رافضة شعار (الأمين إلى الأبد) الذي كرسته عملية الوراثة، وتم تعديل الدستور السوري من أجله، في ربع ساعة شهيرة، فأصبح بذلك مجرد ملحق تبريري، وفقد كل تعبير عن شرعية العقد الاجتماعي.

لكن، بدلاً من أن يؤدي ذلك الرفض، بأول مؤسسات الثورة السورية، وهي المجلس الوطني، إلى قطيعة معرفية مع الماضي وتأسيس شرعية بديلة وناضجة، تنتمي إلى المستقبل، فقد أدى إلى رد فعل انفعالي، تجلّى في تحديد نظامه الداخلي فترة ثلاثة أشهر للدورة الرئاسية! ولم يكن ذلك تعبيراً عن رؤية سياسية قصيرة النفس فقط، قامت على تصور سقوط سريع للنظام، بل كان تعبيراً كاريكاتورياً عن رد فعل مؤداه: بدلاً من رئيس إلى الأبد، نريد رئيساً مؤقتاً، ومؤقتاً جداً، أي رئيساً شكلياً وعابراً، فقد صرنا ضد كل رئيس، الأمر الذي تسبب في أكبر أزمات المجلس الوطني الداخلية، عندما استقال رئيسه الأول، برهان غليون، تحت ضغط الحملة الصاخبة التي شنّتها أوساط معارضة ضد إعادة انتخابه، ولأشهر ثلاثة فقط!

لاحقاً، تكررت الظاهرة، عندما أصبح منصب الرئاسة الشغل الشاغل لحياة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الداخلية، فمن أجله تقوم الاصطفافات، وتنقسم الولاءات، وتشتد التدخلات، ذلك أن الرئيس ما زال الفتى المخلّص، والمنقذ الذي تنتظر منه المبادرات، وما أكثرها كانت مع أول رؤسائه! أما عند وصول رئيس جديد فيجب أن تقوم قيامة الائتلاف، أو يتهدد بالانهيار عند إعادة انتخابه، أو عند الاضطرار لانتخاب خلفه.

وبالعودة إلى التاريخ السوري، كانت ظاهرة الزعيم البطل تبدو حلاً لمشكلة النزعة الفردية إلى الزعامة لدى جميع السوريين، والتي تردد أن الرئيس السوري السابق، شكري القوتلي، حذّر منها جمال عبد الناصر، عندما انتُخب رئيساً لجمهورية الوحدة، بقوله: أسلمك أربعة ملايين زعيم سوري، الله يعينك عليهم.

ذلك الحل يحقق التصعيد الذي تشير إليه سيكولوجيا الجماعات، عندما تتعالى كاريزمية الزعيم الملهم على ميول الزعامة والترؤس عند الأفراد، وتطفو فوقها! لكن، الوقائع برهنت أن الزعيم مسار ديكتاتور، يأمر فيطاع، ويقود الجماهير بالاستناد إلى الشرعية الثورية للحزب الواحد حيناً، أو إلى موروث المستبد العادل حيناً آخر. ودائماً في سياق تاريخي، قام على غياب العقد الاجتماعي وإلغاء الحياة السياسية والمجتمع المدني، وانتهى إلى ما نشهده من انهيارات للدولة والمجتمع معاً. وفي الواقع، إن تضمنت النزعة الفردية السورية شيئاً من حدة العنفوان والحس بالكرامة العالية للإنسان، فقد كسّرت حقبة الديكتاتورية البعثية الطويلة من ذلك إلى حد كبير، واستبدلتها بالخوف من الأمن و”بيت الخالة الشهير”، فجعلت تلك الفردية منطوية على حذر وشك، وعدم اطمئنان للآخر السوري، إلا بعد تجربة وطول تمحيص، وهيهات يتوفر الأمر.

بذلك، غدت ميول الفردية والتشكيك وجهاً آخر لظاهرة طلب الزعيم والمنقذ. وفي هذا السياق، بدلاً من أن تتوجه المعارضة السورية إلى بناء قيادة للمعارضة، أو زعامتها التي تحتاج الثورة لصناعتها حقاً، على حد قول بعضهم، فقد ذهب أبرز المعارضين مذهب التشكيك بأي محاولة لذلك. وكم نتذكر مساهمة بعض الديمقراطيين بتخوين المجلس الوطني فور ظهوره، إلى درجة تسميتهم له بالمجلس اللاوطني، ومجلس اسطنبول، ومهاجمة رئيسه، وتشبيهه ببشار عند إعادة انتخابه، واتهامه بسيطرة فئوية عليه، ثم انقلابهم للتعاون مع المجلس نفسه ورجاله داخل الائتلاف الجديد، ووضعهم يدهم مع يد من كانوا يشككون بهم من قبل! وليس من طريف المفارقة ملاحظة استمرار بعضهم في منصبه اليوم، بعد مرور ضعف ما يعادل دورتهم النظامية، أو عودة بعضهم الآخر إلى فزّاعة السيطرة الفئوية عند كل فشل انتخابي!

فهل آن أوان استخلاص الدروس حول حاجة الثورة السورية إلى قيادة؟ علماً أنه لا بد من ملاحظة الفعالية الكبيرة لثورة وسائل التواصل والإعلام وتدخلهما الكبير في هذا المجال، لا بسبب طابع الثورة العفوي، وانتشار إعلام المواطن الفرد بصورة غير مسبوقة فقط، بل بسبب استفادة إعلام النظام وحلفائه من ذلك، وتوظيفه في جهده المنظم، الذي لا شك في أنه يستهدف تحطيم صورة الثورة وقياداتها، بطبيعة الحال.

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى