صفحات الثقافة

في حرب البوسنة: شعراء تحولوا إلى قتلة!/ سعيد خطيبي

 

 

من المُفارقة أن حرب البوسنة (1992-1995) كانت أيضاً حرب شعراء. كان الشّعر حاضراً في الميادين وفي جبهات الموت، كان يُتلّى، من حـــــين لآخر، ويخــــترق، في صمت، طلقات الرّصاص وانفجارات القـــنابل اليدوية.

كان الشّعر ـ حينها ـ نشيداً لا يقلّ أهمية عن الأناشيد العسكرية، التي كان يردّدها الصّرب، في ثكناتهم وقواعدهم الحربية، التي كانت تطوّق سراييفو، وتفرض عليها حصاراً وموتاً عشوائياً. كان البوسني يموت والصّربي يبتهج ويسمع شعراً. كان «القاتل»، المُرابط على حدود سراييفو، في جبالها وتلالها، مبدعاً شاعراً يرتدي بزّة ويحمل رشاشاً ويقرأ لشعراء قدامى وآخرين مُعاصرين، يكتب نصاً أو نصين، في النّهار، ثم يتذكّر صفته العسكرية، ليلاً، فيقتل أو يأمر بالقتل، أو الحرق، ثم يعود في اليوم الموالي إلى أوراقه، إلى الشّعر، كما لو أن شيئاً لم يحصل.

قد يبدو ـ للوهلة الأولى ـ الأمر غريباً، أن يتحوّل شعراء إلى قتلة، إلى سفّاحين، أن يتبرّأوا من تعاليم الشّعر وينتسبوا إلى دساتير الموت، لكن قبل ربع قرن من الآن، حدث فعلاً أن ركب شعراء موجة العنف، أمسكوا بيد قلماً، وباليد الأخرى أرواح الأبرياء، أشعلوا حرباً داخلية، قسّموا بلداً واحداً إلى جزأين مُتنافرين، سلبوا ونهبوا وأحرقوا، أثاروا حساسيات عرقية وخلافات سياسية، ما تزال تبعاتها مستمرّة لحدّ السّاعة.

رادوفان كاراجيتش (1945)، المُلقّب ﺑ«جزّار البلقان»، الذي قاد واحدة من أبشع مجازر القرن العشرين، في سربرينيتسا (أكثر من 7 آلاف قتيل في أربعة أيام فقط)، هو واحد من أهمّ شعراء سراييفو، قبل الحرب. لقد وُلد في جمهورية الجبل الأسود حالياً، في قرية شبه معزولة، كان النّاس فيها يقضون وقت فراغهم في ترديد الشّعر الشّفوي، وفي استعادة الفلكلور الغنائي للأجداد. في سنّ الخامسة عشرة، سيكتشف نصوص شاعر الجبل الأسود بيتار بيتروفيتش نيغوش (1813-1851) وينتقل للعيش والدّراسة في سراييفو، لكن هذا الانتقال كان صادماً بالنّسبة له، لم يستوعبه كما يجب ولم يتأقلم – في البداية ـ مع مزاجات مدينة كوزموبوليتانية كانت تسمّى»قدس الغرب»(حيث كانت تتعايش فيها الدّيانات السّماوية الثلاث)، وكتب في سنّ مبكرة أوّل قصيدة لها، كان عنوانها «إذهبوا إلى المدينة، واقتلوا أولئك السّفلة»، في نصّ يحرض القرويين على التّخلص من سكان المدن، الذين كان يرى فيهم عناقيد بشر كسالى وغير نافعين! لكن قصّة حبّ واحدة، مع شابّة من سراييفو، ستصير زوجة له، ستغيّر من سلوكيات كاراجيتش، وتصالحه مع المدينة، سينجح في شهادة الثّانوية العامّة، ويختار دراسة علم النّفس في الجامعة. في سنّ الثّالثة والعشرين سيصدر رادوفان أوّل ديوان شعر له، وسرعان ما سيصير اسماً مرموقاً في الأوساط الأدبية، في سراييفو، سيُشارك في أمسيات شعرية، وتطبع دواوينه أيضاً في بلغراد. والمثير في حالة رادوفان كاراجيتش أنه لم يتوقّف طوال ثلاثين سنة عن إصدار نصوصه الشّعرية، وحرب البوسنة – التي كان طرفاً فيها – لم تثنه عن الكتابة، ففي 1994 أصدر ديوان «معجزات». أثناء الحرب – وبحسب شهادات مجنّدين سابقين في جيش صرب البوسنة – كان كاراجيتش يجمع حوله جنوداً، من حين لآخر، ليسمعهم شعراً. وفي 1993 استضاف في ثكنته شاعراً روسياً مهماً ـ آنذاك ـ هو إدوارد ليمونوف (1943)، وراحا معاً يحدّثان المجنّدين في جيش صرب البوسنة عن الأدب، وعن الشّعر في البوسنة وفي روسيا.

بعد نهاية الحرب، صار من الأسماء المطلوبة للمحكمة الجنائية الدّولية، بسبب جرائم التّصفية العرقية التي قادها، لكن لم يكن من السّهل الوصول إليه، لقد أجرى عمليات تجميل، غيّر من شكله، انتحل صفة أخرى، وصار اسمه دراغان دابيتس، يمتهن الطّب البديل، وتحت هذا الاسم المستعار سيصدر ثلاثة دواوين شعر أخرى، آخرها «مذكّرات ليلية» (2004). في 2008، تمّ التّعرّف عليه ـ أخيراً ـ واعتقاله في صربيا، وتسليمه للمحكمة الجنائية الدّولية، حيث تُبع في تهم جرائم ضدّ الإنسانية، وحُكم عليه بأربعين عاماً سجناً.

عام 1992، كان كاراجيتش قد أعلن قيام جمهورية صرب البوسنة، بحجّة حماية صرب البلد، والدّفاع عن انتماء البوسنة والهرسك إلى «صربيا الكبرى»، واحتكر لنفسه رئاسة هذه الجمهورية النّاشئة، وقيادة قوّاتها، المدعومة من بلغراد، وعيّن نائباً له، هو نيكولا كوليفيتش (1936-1997)، الذي كان يُدرّس في جامعة سراييفو، ويعتبر من أهمّ المختصين في شكسبير. بدأ نيكولا شاعراً، كتب شعراً بالصّربو- كرواتية وبالإنكليزية، وانتهى مترجماً وناقداً أدبياً، مختصاً في الأدب الإنكليزي عموماً. في أواسط الثّمانينيات، بعد وفاة ابنه الوحيد، حصل انقلاب حاسم في حياته، ازداد قرباً من الأوساط السّياسية القومية، وتعلّقا بالتعاليم الأورثوذوكسية. أصدر نيكولا كوليفيتش عدداً من الكتب المهمّة، من بينها: «قواعد نظرية للنّقد الجديد» (1967)، «شكسبير التّراجيدي»(1981) و«الشّعر الصّربي الكلاسيكي» (1987).

وفي أغسطس/آب 1992، سيعطي نيكولا أمراً بقصف مكتبة سراييفو العريقة، التي بُنيت في نهاية القرن التّاسع عشر، على ضفاف نهر ميليتسكا.

قام الشّاعر والنّاقد الأدبي نيكولا كوليفيتش بحــــرق مكتبة كانت تضمّ أكثر من مليون ونصف مليون وثيــــقة، بما فيها كتبه هو نفسه، وانتهت ـ لاحقاً ـ حياته بتراجيـديا أشبه بتلك التي عاشها، حين استوعب أن الحرب التي خاضها كانت حرباً خاسرة، وتتناقض مع قناعاته الأدبية وعقيدته الدّينية، فكّر في الانتحار، ومات في مستشفى بلغراد، تاركاً خلفه مخطوطتين شعريتين غير منتهيتين.

رادوفان كاراجيتش ونيكولا كوليفيتش لم يكونا ليصلا إلى ما وصلا إليه لولا مُساعدة ودعم من شخص ثالث، كان أشبه ﺒ»عرّاب» لهما، سنوات شبابهما، في سراييفو، كان «نمــــــوذجاً» لهما في الشّعر، كان يقرأنا ويعلّقان ويكتبان عن إصداراته، ونقصـــــد هنا: دوبريتسا تشويتس (1921- 2014)، الذي لم يكفه لقب «شاعر الوطن الأكبر»، وتجــــاوزت طمــــوحاته الشّعر والرّواية، حيث عارض في السّتينيات الزّعيم التّاريخي تيتو، وفُرضت عليه الإقــــامة الجــــبرية، تحوّل من كاتب إلى مناضل سياسي، وصار ـ لاحقاً ـ أوّل رئيس لجمهورية يوغسلافيا الفيدرالية (1992-1993)، هذه الجمهورية التي ستختفي من الوجود بعد عشر سنوات من ذلك.

لكن في فترة توليه رئاسة البلد، لعب دوبريتسا تشويتس، الذي عُرف بكتاباته الملحمية، دوراً مهماً في صعود كاراجيتش وكوليفيتش، ثقته فيهما لم تكن لها خلفيات سياسية، بل السّبب فيها يرجع إلى صداقتهم الطّويلة في الكتابة والشّعر، وفي الأدب عموماً. انحاز دوبريتسا تشويتس إلى شاعرين، رفعهما إلى مناصب سياسية مهمّة، وفّر لهما ما يحتاجان إليه من دعم عسكري وتغطية سياسية، وامتنع، طوال حياته، عن التّنديد – ولو لمرّة واحدة – بمجازر جيش صرب البوسنة في سراييفو أو في سربرينتسا أو في غيرها من مدن البلد الأخرى وقراها. لقد انتصر دوبريتسا تشويتس لشاعرين صديقين، وتغاضى عن مجازرهما، وهو الكاتب المعروف بنصوصه النّاقدة ـ بحدّة ـ لتجاوزات الرّئيس تيتو أو تجاه ما فعله النّازيون في بلده، سنوات الحرب العالمية.

اشتهر دوبريتسا تشويتس، وتُرجمت بعض أعماله، في الخارج، بفضل ثلاث كتب مهمّة: «زمن الموت»، «زمن السّلطة» و»زمن الدّجل»، لكنها لم تلق الاهتمام الذي تستحقّه، وفي المرحلة الأخيرة من حياته سيشتهر بتواطئه مع «جلاّدي البوسنة»، ومحاباتهم لهم. هكذا تحوّل «شاعر الوطن الأكبر» في صربيا من مُعارض لأحادية تيتو، ناقد للأنظمة للشّيوعية، إلى رئيس يتمادى في ممارسة سلطاته وفي التّغاضي عن الجرائم التي كانت تدور بالقرب منه.

هؤلاء الشّعراء الثّلاثة كانوا سبباً في واحدة من أفظع حروب القرن العشرين، نكلّوا بضحاياهم، أحرقوا وقتلوا، لكنهم – في النّهاية – لم يقتلوا سوى أنفسهم، سقطوا من شجرة الشّعر، وخرجوا، مرغمين، من مرجعيات الأدب. كما لو أنهم كانوا ينتقمون من أنفسهم، من تاريخهم الشّخصي، من أدبهم، تحوّلوا، في آواخر حياتهم، إلى «برابرة»، ونسوا وظيفتـــهم الأساسية: الكتابة، ولا شيء آخر غير الكتابة. فضّلوا» العنف» بدل المصالحة، انحازوا للموت بدل الحياة. هل انحيازهم للحرب كان سببه قناعة بأن الشّعر لا يغيّر شيئاً؟ هل اقتنعوا – هم أيضاً – أن الرّصاص أصدق إنباء من القصيد؟ حرب البوسنة لم تكن لتصل إلى تلك العتبة المتقدّمة من الشّناعة ومن الفداحة لولا تدخّل هؤلاء الشّعراء الثّلاثة. ألم يكن أفلاطون محقاً أن خاصم الشّعراء وطردهم خارج الجمهورية الفاضلة؟!

٭ روائي جزائري

القدس العربي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى