في «حفر» العقل العربي لغة وفكراً
موريس أبو ناضر
من يتابع كتابات محمد عابد الجابري، يجد أن المفكّر المغربي قد تجوّل من أجل صياغة مشروعه «نقد العقل العربي» بين فروع العلم وضروب المعرفة في الثقافة الإسلامية، وتنقّل من أجل الغاية ذاتها، بين العلماء والفلاسفة الغربيين وفي مقدّمهم كانط في كتابه «نقد العقل الخالص»، وباشلار في كتابه «تكوين العقل العلمي».
إن مفهوم العقل الذي استقاه الجابري من كانط وباشلار وأمثالهما من فلاسفة الغرب، حاول تبيئته عربياً، ومن ثمّ حاول فحصه ونقده بصفته أداة للإنتاج النظري، صنعتها ثقافة معيّنة لها خصوصيّاتها هي الثقافة العربية بالذات. ثقافة تعكس واقع العرب وتعبّر عن طموحاتهم المستقبلية، كما تعكس وتعبّر في الوقت ذاته عن عوائق تقدّمهم، وأسباب تخلّفهم الراهن.
سلك الجابري في تحليله للعقل العربي (أي جملة المبادئ والقواعد التي تقدّمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة) مسلكاً تحليلياً، لا بمعنى ردّ المركّب إلى البسيط كما يفعل الكيميائي، ولكن بالنظر إلى الموضوعات بصفتها بنى تقيم في ما بينها علاقات بعضها ظاهر، وبعضها الآخر مضمر، بعضها ثابت وبعضها الآخر متحوّل. ويمرّ هذا التصوّر بدراسة الخطاب العربي وإبراز ضعفه وتشخيص عيوبه وثغراته، ومن ثمّ البحث عن جذور الخصائص التي لاحظها على الخطاب العربي المعاصر في تاريخ الثقافة الإسلامية. وقد ضبط هذه الجذور في تصنيفه الثلاثي المشهور لمكونّات العقل العربي وهي: «البيان» و «العرفان» و «البرهان»، كما عمل على فحص آليّات هذه النظم المعرفية الثلاثة ومفاهيمها ورؤاها، وعلاقة بعضها ببعض، كما تكوّنت في عصر التدوين، وكما استمرّت حتى اليوم.
أثار مشروع المفكر المغربي في نقد العقل العربي، نقاشاً مستفيضاً وحاداً في الحقل الثقافي العربي، وكان المفكر المغربي طه عبدالرحمن كما يذكر محمد همام في كتابه «جدل الفلسفة العربية» الذي ينشره المركز الثقافي العربي، أبرز من تصدّى لنقد مشروع الجابري، مؤسساً لمشروع نقيض من حيث المداخل والآليات والمآلات.
يعتبر طه أن الباحثين في التراث العربي قيّدوا أنفسهم بمنطلقات منهجية ومفاهيمية من دون وعي بأصولها وفوائدها المحدودة، لذلك غرقوا في طلب النسبية والتفاضل بدل الوحدة والتكامل، وطلبوا الاسترقاق بدل التحرير فوقعوا في النقص المعرفي، والخلل المنهجي. أما طه نفسه فقد التصق بالتراث وتعمّق في بنية نصوصه فأدرك مناهج القدماء ولجأ إلى مناهج المحدثين في التداوليات والمنطقيات في شكل تداخلي مثمر.
يرى طه أن غالبية الدراسات تسلّم بوجود مبادئ ثابتة للعقل دون غيرها باعتبار هذا العقل في ذاته جوهراً مستقلاً، فيما العقل على خلاف ما جرى عليه الاعتقاد ليس ذاتاً قائمة في الإنسان، وإنما هو فعل من الأفعال يصدر عن الإنسان كما يصدر عنه السمع والبصر، وشأن الفعل أن يتغيّر بتغيّر الأسباب والظروف.
ويعتبر طه أن الجابري اشتغل بمنهج الاجتزاء بالمضامين فأضرّ بمبدأ التداخل الذي يقوم عليه التراث معرفة وسلوكاً، والاجتزاء يتبيّن في تقسيمه المضامين التراثية إلى قطاعات متمايزة في ما بينها، وتفضيل بعضها على بعض، فيكون من هذه القطاعات ما يعدّ مقبولاً يستحق الدرس، بحجة أنه حيّ يحتمل أن نربط أسباب الحياة فيه بالحاضر، وأن نتوجّه بها إلى المستقبل، ومنها ما يعدّ على العكس من ذلك مردوداً لا يستحقّ الدرس بحجة أنه ميت ينبغي قطع صلاته بالحاضر، حتى لا يضرّ بآفاقه المستقبلية.
ويلاحظ طه عبدالرحمن أن أكثر الباحثين العرب يغلب عليهم في وضع مصطلحاتهم العلمية وبناء أجهزتهم الوصفية والتفسيرية، الاشتغال بقوالب ومعايير اللغات الأجنبية الفرنسية والإنكليزية، عبر نقل حرفي لمصطلحات أجنبية ومن دون وعي بأصول بعضها، وفائدتها المحدودة. وبلغ سلطان هذه المعايير على هؤلاء درجة أصبحت ألفاظهم أشكالاً متقطّعة الصلة بدلالاتها اللغوية، وفاقدة لأسباب الإنتاج والتغيير في الفكر العلمي، لذلك اعترض طه على الجابري، لمّا لم يقم بتمحيص إجرائية بعض المفاهيم التي اشتغل بها في مشروعه النقدي مثل «العقلانية» و «القطيعة» و «النظام المعرفي» و «البنية» و «اللامعقول». مفاهيم وضعت في أصلها لموضوعات مغايرة لموضوع التراث، وعلى مقتضى شروط مخالفة لشروطه، فيكون إنزالها على التراث من غير ممارسة أشدّ أساليب النقد عليها إخراج التراث على صورة لا تحافظ على بنيته في تداخل أجزائها وتساند عناصرها.
وتتبّع طه بعض أشكال الفساد المنطقي في تعريفات الجابري وفي مطابقاته، مثل تعريف اللامعقول العقلي ومطابقته باللامعقول البرهاني، وهذا ما جعله يخلّ ببعض الشروط المنطقية للحدّ وهو الاضطراد، وكذا بقانون قلب المراتب، واعترض طه أيضاً على آلية التقسيم التي استخدمها الجابري من حيث التقسيم في ذاته، واعتبره مؤسساً على ما يعرف عند المناطقة بمغالطة «ازدواج الاعتبار»، ذلك أن الجابري استخدم معايير متعارضة في بناء التقسيم، وما يتعلّق به من ترتيب لأن كل نظام في تقسيمه ينتمي إلى إطار مقولي مختلف. فالبرهان مقولة متعلّقة بالصورة الاستدلالية العقلية، والبيان مقولة متعلّقة بالصيغة اللفظية، والعرفان مقولة متعلّقة بالمضمون المعرفي. والخلاصة أن تقسيم الجابري الثلاثي «البرهان» و «البيان» و «العرفان»، تقسيم فاسد بنظر طه لازدواج معاييره، وقلّة تحصيل الملكة في العلوم الصورية والمنهجية. وهنا يقترح طه تقسيماً بديلاً بناء على اعتماد معيار واحد، كالتقسيم بحسب المضمون (العقل والعلم والمعرفة)، أو التقسيم وفق الصيغة اللفظية (البرهان والحجاج والتّحاج).
عمل طه على فحص دعوى الجابري أنه يمارس نقد الأصول المعرفية، من وجهة إبستمولوجية. وبعد إجراء عمليات تقويم نقدي لهذه الدعوى اتضح له مدى التعثّر في مجموعة من المماراسات العلمية، على مستوى التصوّر، أو على مستوى المعلومات، أو على مستوى الخلفية المنهجية من ذلك تصوّر الجابري للعلم، فالمصادر الفرنسية التي اعتمدها الجابري في بناء منظوره العلمي تنتمي إلى النصف الأول من القرن الماضي متجاوزة ما طرأ على النظرة العلمية إلى العقل والعقلانية من تجديد في الأبحاث الحديثة.
راجع طه مجموعة من اقتباسات الجابري واعترض عليها من الوجهة العلمية، مثل ادعاء الجابري أنه أخذ تقسيمه الثلاثي من القشيري في تفسيره «لطائف الإشارات»، إلاّ أن طه يعترض بدعوى أن القشيري الذي عرف بضبط المصطلح وتدقيق المعنى لن يقع في ما وقع فيه الجابري من تخليط بين مستوى الصورة ومستوى المضمون في التقسيم، إضافة إلى أن القشيري لم يذكر لفظة «العرفان» ولكن ذكر لفظة «العيان»، وهي تدلّ على معنى المنهج والصورة من دون المادة والمضمون.
كثيرة هي ملاحظات طه عبدالرحمن حول مشروع نقد العقل للجابري. ملاحظات أحياناً قيّمة وأحياناً أخرى واهية، ولكنها تساهم في تعميق النظرة في عمل المفكر المغربي الذي أغنى المكتبة العربية بعشرات من الكتب التي تستحق القراءة والتقدير، وفتح المجال أمام الباحثين في إعادة النظر بمفهوم العقل العربي الراهن الذي يستمدّ نسغه من مقولات أكل الدهر عليها وشرب.
الحياة