صفحات سوريةنبراس شحيد

في حكايات الموت وتحوّلات الجثة


    نبراس شحيّد

بين الأحياء والموتى خبزٌ وملح!

كنت أخاف كثيراً من جثث الماضي، وما زلت أتذكر كيف بللتُ سروالي طفلاً حين التقيتُ الجسد البارد. كان جدّي بجانبي والجسد الممدّد كان جدّتي. لكن، هل كانت جسدَها أم كان لها جسدُها، ثم غاب؟ لا أعرف! كان المشهد عابثاً، وجدّي يحاول أن يحبس شهقته، لتُفلتَ منه دمعةٌ لم تعد المقلتان تتسعان لها. مع ايقاع القطرات المنسلّة من عينيه، استطعت الاقتراب من الشيء الأصفر، لكنني لم أنجح في تقبيله إلّا حين تذكرت أن له اسماً: أمُّ رائد، جدّتي!

اليوم، بعد عشرين عاماً، أترك الكتابة ومقالات السياسة، لأعود إلى عالم الجثث، بعد ما اجتاح العسكر المدينة، فهدموا المنازل ليغيّبوا الموتى عن حكاياتهم. تتراكم الجثث مع تراكم الأيام، ويتكوّم المتظاهرون في الساحات وسمواتها: “يا الله ما إلنا غيرك يا الله…”. هكذا، ابتدأت حكاية أنسنة الجثث!

للجثة المرمية جسد الحكاية

جلبتُ إلى الدار جثّةً من دون اسم: امرأة عجوز قتلها الجنود وخلّفوها بلا هوية. بكتها فاطمة، زوجتي، عندما شاهدتَها منحورة الرقبة، ثم هدأتْ لتطيل النظر في جثة المرأة، كأنها مرآةٌ ضاعت في تجاعيد وجهها. أما أنا فقد ابتلعني الصمت، لينسدل اللحن من ثوب سكوني الممزق مختنقاً، شيئاً كالحنين: “أيتها النفس المطمئنة…”!

لم تنمْ فاطمة تلك الليلة، فقد أطالت النظر في المرأة- المرآة، حتّى أوشكت أن تتشرّب العجوزَ في جسدها. أما أنا، فأسلمتُ رأسي للوسادة، لأشاهد زوجتي، بين غفوتين، تسدل رأسها على كتف المرأة المجهولة، كأنها نبيّة تقيم ميتاً.

“ما اسمها يا عديّ؟”، قالت فاطمة في الصباح بلهفة، فأجبت ساخراً: “وما أدراني يا امرأة!”. لكنني ابتلعت ريقي كمن يبتلع حجراً، وتملّكني الهلع، فقد رأيتُ العجوزَ الليلة الماضية في حلمي تنظر إليّ وتبتسمُ بموت. “سمِّني!”، قالت العجوز في المنام. “سمّني يا بنيَّ كي أسكن الموت فلا أبقى شريدة!”.

وبينما أنا تائهٌ في استذكار مفاصل الحلم، التفتتْ إليّ زوجتي لتقول لي: “فلنسمّ العجوزَ فاطمة!”. لم أُرد الاسم هذا، لكنني لم أستطع المقاومة، فهززت برأسي موافقاً، لترقد فاطمة العجوز في مقبرة الاسم قبل أن ندفنها في “حديقة الموتى”.

الموت أسماء وأشلاء

أعاد العسكر اجتياح المدينة، وعدت إلى لملمة الأسماء والأشلاء. جلبتُ يومها ميتاً من دون هوية: رجلٌ بشاربين كثيفين، وعيناه لا تزالان مفتوحتين. جثةٌ تنظر إليّ، وفي سواد المقلتين ذكرى أخيرة. وضوح الملامح يقول ما لا يمكن قوله، فتسودني الحيرة: إلامَ كان ينظر قبل أن يُقتل؟ لا أعرف، ويجتاحني الشعور بالعجز. سألتُ فاطمة: “كيف يتجرأ الحي أن يغلق عيون الموتى؟”، فساد الصمت، لتقول بعد برهة: “خلّهما مفتوحتين يا عديّ، فلعلّ الميت يحمل معه آخر ما انطبع في عينيه! خلّهما مفتوحتين ليصدق الموتى أن حبيبته كانت جميلة!”. بدت لي كلمات فاطمة منطقية، فلا جواز سفر إلى عالم الموتى إلّا خيوط الحكايات وذكريات قديمة قد لا تموت! “حبيبته جميلة يحملها في شبكية عينيه”، قلت في نفسي بشغف، لتتملكني الرغبة في أن أسأل فاطمة: “وما أدراكِ أن عشيقته كانت آخر ما رآه قبل أن يموت؟”. لكنني أحجمتُ لأني أعرف أن حدس الأنثى لا يخطئ. فقلت لها: “فلنسمّه إذاً “الميت المفتوح العينين”، فأعجبها الاسم وقبّلتني، ثم أنشدت للجثة أغنية: “ذهبنا مقهورين، لا نملك إلّا بعض ترابٍ لم نعطه…”.

أرادت فاطمة أن نأخذ للميت المفتوح العينين صورة، فتبقى ذكراه على الحائط معلقة، تلفّها شريطة سوداء ناعمة تقول الحداد. لكنني ترددتُ لأنني أعرف الموتى ونزقهم! يتمرد الميت على أقفاص الصورة، كما على خاتمة الحكايات التي ننسجها لنسجنه، فنرتاح ونبكي. الميت ليس صورة معلقة ليبقى في مكان، فقد تشبّعت منه جدران المنزل، وأرصفة الطريق، وطاولة المقهى التي اتكأ عليها حياً ليلعب النرد، كما تشربته قصص الأحياء وهمومهم. لم يعد في مكانٍ بل صار المكان! فقلت لفاطمة: “دعيه حرّاً من دور صورة تؤطّره، وليبقَ سائحاً في الاسم الغريب، ولتبقَ حكايته فرضيةً بخاتمةٍ ركيكة، نلتقط منها ما تتطاير من ذكريات العينين المفتوحتين”. “يا لقسوة الحياة!”، أجابتني، ثم أخلدتْ إلى الفراش.

جاء دوري كي لا أنام تلك الليلة، فأضيع في تفاصيل الجثة التي بقيت مفتوحة العينين، كأنها تنظر إلى كل شيءٍ في اللاشيء. عرفتُ حينها أن اهتمامي بالجثث لم يكن مجرد نوعٍ من إكرام الضيوف، فالأموات صاروا من أفراد العائلة، يتناسلون يتكاثرون… تذكرتُ ليلتها حكمة جدتي العجوز عن الموتى، روتها حين كنت صغيراً: “عندما تغني لميتٍ بشجن، في ليلةٍ مقمرة، منتصف الليل، سيستفيق يوماً لتأخذ أنت مكانه!”.

الجثة التي بقيت من دون اسم

جلبنا جثّةً من تحت أنقاض بناءٍ تهدم. كانت جثّةً محايدة إلى حدّ العدم. لا بسمة على الشفاه ولا تجهّم، ولا عينين مفتوحتين تسربان شيئاً من الماضي. جثّة مصمتة بلا حكاية! كيف نسمّيها كي لا تضيع في النسيان، وماذا نكتب على الشاهدة؟ تجادلتُ كثيراً مع فاطمة، وعلت أصواتنا، لكننا لم نصل إلى اسم، فقلت: “فلنضع لها رقماً إذاً ونكتب: “هنا يرقد الميت عشرون!”. لكن زوجتي رفضت أن تبقى الجثة بلا اسمٍ خوفاً من أن تتوحّش، أو تصير ذئباً، فالجثث، كما تقول فاطمة، “تعوي إن أنت لم تكلّمها!”. لذا قررتْ فاطمة تسميتها: “الجثة التي بقيت من دون اسم”! “ما هذا الاسم الغريب؟”، قلت في نفسي، لأستدرك: “هو اسمٌ ينحت حقيقة الموتى: غرباء ستبقون في عالمنا ومع ذلك أقرباء! لهذا، سنختلق لكم حكايات وأسماء كي تستمر الحياة”.

للجثث فلسفاتها!

عندما تعمّد اسم الجثّة باللااسم، انهمرت دموع فاطمة، وخرجتْ تلعن السياسة وبطش الحياة. أما أنا فعدت إلى شجن الغناء، مستذكراً كلماتها قبل أن تغيب: “الموت ولادةُ الحكايات، وعهدٌ بين الجثث والأحياء!”

حدّقتُ مجدداً في الجثة العارية أمامي وقد هممتُ بغسلها. الميت الآن يعطي كل شيءٍ في حيادية الموت المطلقة. أقلّبه يمنةً فيستدير معي، ويسرةً فلا يقاومني. لا عورة تخجله، ولا شيء يخفيه عني، لكنه على الرغم من ذلك يخفي كل شيء!

الميت يعطي ذاته مستسلماً، ليوكلنا حياكة حكايته، فلا يصير اللاشيء. وهو، وإن بقي مجهول الاسم، له اسمٌ يقول غربته: “الجثة التي بقيت من دون اسم”!

عادتْ زوجتي إلى الدار لترشّ بعضاً من ورد الرمّان على صدر الميت. هو الآن في البيت جثة، واسمٌ نختلقه كي لا يستوحش فيتوحّش. لكنه في مخيلة فاطمة حكايةٌ أخرى، روتها لي حين أغمضتْ عينيها: “أراه هناك واقفاً قرب زوجته، من النافذة يترقب بحذر، ليشاهد دخول العسكر الحيَّ قبل أن تخترق الطلقة جسده…”.

هكذا هلك الميت، وهكذا حمّلناه قبلةً يطبعها على جبهة أمه، ووردة، هناك في العالم الأبيض. هكذا، أعطيناه اسماً كي تختلط جثّته بجسد الكلمات، فيقول لزملائه الموتى: “هناك في حمص اعتنوا بي وألبسوني حكايةً وكفناً، لكنهم لم يتملّكوا الاسم!”.

الاسم الذي بقي من دون جثة

قتل العسكر فاطمة وسرقوا جثّتها لتضيع. لم يبقَ منها إلّا قطعة من شالٍ أسود، أفلتت من همجيتهم، واسم. بكيتُها طويلاً، وبكيتُ معها الحكايات والأسماء التي طاشت، وتسلَّلتْ طويلاً من بين الانفعالات أغنيتُها عن الموتى: “يا أحبابي عودوا حتى لو كنتم قد متم!”. أخبرني الجيران يومها كيف ماتت مبتسمةً حين أطلقوا عليها النار وهي عائدةٌ إلى المنزل. ماتت من دون قبلة أودّعها بها، أو أستودعها إياها للأحباب هناك، ماتت من دون جنازة، لتتمرّد على الطقوس!

في سكرات الحزن، وبين جموع المعزّين، شاهدتُ، على ما أذكر، رجلاً له وجهٌ كوجه “الجثة التي بقيت من دون اسم”. ربما جاء ليشكر فاطمة على الاسم والحكاية، أو جاء ليستقبلها بحياديته المطلقة في عالم الموتى. بدا لي واقفاً من بعيد يلوّح بيده، وعيناه مسمّرتان على الطاولة التي عليها تمدّد جثةً قبل أن يُدفن.

في تلك الليلة المقمرة، ظهرتْ لي فاطمة في حلمي مبتسمةً، والتجاعيد بدت على وجهها الجميل، وكانت تناديني…

ملاحظة أخيرة

هذه كانت أشلاء حكاية عديّ، لملمها أصدقاؤه من مذكرات قاومت النسيان. استشهد عديّ في 25 أيار المنصرم، وهو يحاول انقاذ طفلٍ، لتبكيه أسماءُ من ماتوا قبل أن يندبه الأحياء!

* يندرج التأمل هذا في مشروعٍ أدبي- فلسفي مشترك مع علاء الراش للخوض في إشكالية حكايات الموت والثورة. في السياق هذا، نشر علاء “حكاية فريق الموتى” في جريدة “سوريتنا”، العدد الرابع والثلاثون، 13/5/2012.

(راهب يسوعي سوري)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى