في حلب: رحلة تحت النار
هيفيدار ملا
لم تكن فكرة السفر إلى حلب إلا مغامرة وأنا أسمع الأخبار المتناقلة عن اشتعال المعارك في شوراع المدينة، بعد أن سيطر الجيش الحر على أجزاء منها.
أخذني الفضول، فقررت السفر صباح يوم الخميس 26 تموز/يوليو إلى المدينة منطلقاً من محافظة الحسكة. لم تكن تلك الرحلة كسابقاتها التي قمت بها طيلة فترة الثورة. في زياراتي السابقة لحلب كنت أتجول وأشعر بالإمتعاض وأنا أشاهد المدينة بعيدة عن خط الثورة. كان يؤلمني أنّ المواطن الحلبي المؤيد للثورة يخشى الإعلان عن موقفه أمام الأعداد الهائلة المؤيدة للنظام. إذ إنّ نسبة التأييد كانت كبيرة بين كافة شرائح المجتمع، وعلى وجه الخصوص الطبقة البرجوازية، ولكن حلب بدأت تتغير يوماً بعد يوم منذ أن وصل الحراك ريفها.
بدأت رحلتي في الساعة السادسة صباحاً. خرجت الحافلة من محافظة الحسكة باتجاه الطريق الدولي ولم نشهد أي حاجزٍ أمني بعد. لم أعتد أن أنام خلال السفر، على الأقل حتى منتصف الطريق، ولكن هذه المرة كان لدي سبب إضافي حتى لا أنام. دفعني الفضول إلى إبقاء عينيّ مفتوحتين طوال الرحلة، أراقب كل شيء وأتناقش مع أحد الأصدقاء الذي رافقني في الطريق. “حلب خرجت من عباءتها ولبست ثوب الثورة،” قال صديقي.
المسافة إلى حلب تستغرق خمس ساعات. الطريق حتى نصفها كانت شبيهة بمنطقة الحسكة، خالية من أي وجود للجيشين النظامي والحر. بدأ المشهد يتغيّر عندما وصلنا منطقة عين عيسى. إستوقفنا حاجز للأمن السوري. كانت وجوه عناصره خائبة، ولا أقول ذلك فقط لتعاطفي مع الثورة وإيماني بها. يصعد جندي إلى الحافلة. عما يبحث؟ لا أعرف. حتى هو بدا وكأنه لا يعرف. هل كان يبحث عن إرهابيين؟ وهل هناك أكثر من النظام الذي يحميه إرهاباً وقتلاً؟
الحاجز الأمني الأخير، كما أعرف، سيكون على جسر قره قوزان، الذي تجري من تحته مياه الفرات. عندما وصلنا الجسر انبهرت. لأول مرة في حياتي أرى هذا الحاجز بدون حراسة، بل أيضاً تم إخلاؤه من كل العناصر وقد وضع عناصر الجيش الحر بصمتهم عليه بكتابة شعارات مناهضة للأسد. تملّكني سرور عارم. تمنيت لو أنّ كل سوريا تتحرر من هذا الطاغية. قد يجوز وضع “أنت في سوريا المستقلة” عنواناً للمنطقة الممتدة بعد جسر قره قوزان؛ فعلى جنبات الطريق تشاهد قرى ومدن محررة.
لم تكن المسافة طويلة حتى وصلنا منطقة كوباني (عين العرب). هنا حاجز من نوع آخر. مجموعة شباب أكراد، يرفرف فوقهم علم حزب العمال الكردستاني، يوقفون كل من يمر أمامهم. أكملنا طريقنا وأنا كلي اشتياق للمرور بحاجزٍ للجيش الحر. كنت أريد رؤية هؤلاء الشبان كثيراً. إذ لم نشهد في منطقة الجزيرة لا جيش النظام ولا الجيش الحر، ولا نرى غير التظاهرات.
عند وصولي مدخل مدينة منبج تحقق حلمي. صعد إلى الحافلة شاب وسيم بوجه بشوش، يلبس الزي المدني. إنه من الجيش الحر، الذي بات يسيطر على المنطقة بأكملها. لا وجود هنا للنظام ولجيشه البتة. تفقد الشاب كل الهويات الشخصية. الفضول جعلني أسال سائق الحافلة عن سبب التفتيش، فأجابني أن الجيش الحر يبحث عن الجنود النظاميين، لأنه يمنع أي شخص من الإلتحاق بجيش الأسد. بعد أن تجاوزنا الحاجز، رأينا عناصر الجيش الحر يغلقون الطريق ثم طلبوا من السائق تغيير مساره والتوجه نحو مدينة تادف بسبب وجود اشتباكات على مسافة قصيرة. ما رأيته في تادف كان أشبه بحلم. لا يوجد فيها أي شيء يسمى النظام السوري. المدينة محررة، يسيطر عليها الجيش الحر. أعلام الإستقلال ترفرف في كل مكان. تلك المدينة باتت في عالم آخر.
قبل خروجنا كنت أعلم أنّ حلب تقصف منذ يومين. شاهدت نزوح الناس نحو الريف في سيارات مليئة بالركاب والمتاع. حالة هلع لا توصف. مررنا بحاجز آخر للجيش الحر على الطريق الدولي وتجاوزنا مدينة الباب المحررة أيضاً. لم أرَ أي أثر لقوات النظام إلا عند مدخل حلب. تعجبت؛ هل يعقل أنّ النظام لم يعد لديه سوى القصف والطيران؟ إستقليت سيارة أجرة متجهاً نحو وسط المدينة واتصلت بصديق. في حي النيرب بدأت أسمع أصوات غريبة لم أسمعها إلا على التلفاز وفي مقاطع “يوتيوب”. إنها المدافع تدك بقذائفها أحياء المرجة وبستان القصر.
كانت الطرقات فارغة إلا ممن يحاول الهرب. لم أتخيل أنّ القصف مؤلم وحقيقي بهذه الدرجة. هل يعقل أنّ هناك إنساناً يقصف أحياءً تعج بقاطنيها؟ كانت الأسواق كلها مغلقة. هذه المدينة التي كانت يوماً تضج بالحركة مغلقة عن بكرة أبيها. لم يتبق إلا “البسطات” لكي يشتري منها حاجياته من بقي من الناس.
شاهدت أعمدة الدخان المتصاعدة من البنايات التي تقصف وراودني حال العائلات التي تسكنها. عند وصولي إلى منتصف المدينة بقيت أنتظر صديقي الذي تأخر بسبب القصف. فجأة رأيت طائرة مروحية تحلق في الهواء. يا إلهي! لوهلة لم أصدق ما رأيت. كانت الطائرة تكمل دورتها وتقف عند هدفها المحدد وتقصف بدون هوادة. كل ما شاهدته كان حقيقة وليس من نسج مخيلتي. تلك الحقيقة تأكدت عندما شاهدت مدفعين في حي الميدان موجهين، كما قيل لي، نحو حي الصاخور البعيد.
كل ما شاهدته في حلب كان في ثلاث ساعات، مضت وكأنها ثلاثة أشهر. حلب تغيرت؛ وجوه الناس تغيرت. كما رحلة الذهاب إلى حلب، كانت رحلة العودة تشعرني بالسعادة بأن أياماً جديدة ستكتب، على الرغم من هول ما شاهدت. الثورة وصلت حلب وقبلها دمشق، ومن خلال الرؤية يدرك المرء أن هذا النظام سيسقط، رغم همجيته، على يد الشعب. النظام انتهى على الأرض، لكن ما يحزن أنه لا يرحم وهو يستخدم القصف بالطيران والمدفعية.
أثناء العودة بقيت صائماً ولم أتذكر لا الماء ولا الطعام. كنت أفكر فقط في ذاك المشهد الخيالي. إن أتى مخرجو هوليوود إلى سوريا سيستوحون مئات الأفلام مما يحدث!
إنتهت رحلتي تحت النار عندما وصلت إلى منطقة الجزيرة الآمنة والبعيدة عن القصف، وقطعت الحاجز الأمني الوحيد قبل أن أصل إلى المنزل. تمنيت أن يكون الإستقلال قريب.