في خُطَب الحُكَّام
هنري زغيب
أَمام جَمْعٍ من المواطنين الفرنسيين في حديقة اللوكسمبور، وقَف فرنسوا هولاند يلْقي خطابه في “اليوم الوطنيّ لإِلغاء الرِّقّ والاستعباد” مُعْلناً رفْض بلاده دفعَ تعويضاتٍ عن عهود العبودية، معتبراً أَنّ تنقيةَ الذاكرة أَهَمُّ للخروج من سَواد الذكريات.
ولكي يدعمَ موقفه لم يَجِدْ أَقوى من الشِعر، فقال: “ثم ماذا؟ فاتورةٌ نُسَدِّدها ويَنتهي الأَمر؟ أَبداً. لا يُمحى التاريخُ بدفْع تعويض ماديّ بل بالحفاظِ على الذّاكرة نقيّةً ونقْلِها من جيلٍ إلى جيل”. وهو مقْطع من قصيدة للشاعر الفرنسي المارتينيكي إِيمِّيه سيزير الذي تحتفل فرنسا هذه السنة بِمئَوية ولادته، هو الذي جعل الزُّنوجة قضيّته فكانت قصائدُه مفترَقاً حاسماً لاقاه عليه الرئيس ليوﭘولد سنغور، الشاعر هو الآخَر، فتخاصَرت القصيدةُ والقصيدةُ وطَلَع فجرُ التحرُّر من نِير اللون والفروق العنصرية.
هوذا الحُكْمُ يَدعَم حجَّته بالشِعر. وهوذا حاكمٌ يَقْوى بِشاعر.
في التاريخ عِبَرٌ كثيرةٌ عن حُضور الشِعر في خُطَب الحُكَّام وعن منزلة الأُدباء لدى قادةِ دولٍ ذوي تَبَصُّرٍ حكيم.
سئِل يوماً شارل ديغول عن سبب إِجْلاسه أَندره مالرو إِلى يمينه في مجلس الوزراء مع أَنّ مالرو ليس رئيس الحكومة، فأَجاب مُنْقذُ فرنسا الخالد: “أَبداً. لستُ أُجْلِسُهُ إِلى يميني بل أَنا أَجلسُ إِلى يساره”. وسرى قولُه هذا مَثَلاً على احترام القائد هَيبةَ الأَدب ووعيِه قيمةَ الأُدباء والمبدعين.
كلُّ نهجٍ سياسيّ يخلو من جَوهر الفكر والأَدب والفلسفة لا يبلغ منتهاه. الثورة الفرنسية قامت على آثار رَبابنة
فكْرٍ وفلسفةٍ وأَدبٍ صَنعوا منارات “عصر الأَنوار” الفرنسي: روسُّو، ﭬولتير، مونتسْكيو، ديدْرو،… فكانت كتاباتُهُم
شُعلةً أَضاءت للسياسيين والحكَّام بعدَهم هداية الطريق.
على هامة كلّ بلادٍ شاعرٌ يُعَنْوِنُها عالَمياً: لفرنسا ﭬيكتور هوغو، لإِسبانيا سرﭬانتس، لإِيطاليا دانت، لروسيا ﭘوشْكين، لأَلمانيا غوته… ولا تنتهي مشاعلُ الشُعراء والأُدباء والفلاسفة في رفْد كل عصرٍ بِمجْد الكلمة. والحاكمُ البَصير يعود في خلَواته إِلى كلماتهم يَستضيء بها ويتبصَّر كيف الفكْر يقود البلاد. فالحُكْم، أَيّانَ طال، لَحظاتٌ عابراتٌ سِراع، والأَدبُ لَحظاتٌ باقياتٌ خالداتٌ على الزمن فلا يتآكَل بالآنيّات السياسية.
الخطابُ السياسيّ، مضموناً وهَدَفاً، ابنُ مناسبته وظرْفه ودوافعه، يضمحلّ حين تبلغُ الشطَّ أَمواجُ تلك المناسبة وذاك الظرف وهاتيك الدوافع. والنصُّ الأَدبي، نَثْرُه والشِعر، هو ابنُ الديمومة التي لا تُلْغيها مناسبةٌ ولا يُبْهِتُها ظَرفٌ ولا تَمضي بها دوافع.
والحاكمُ الذي يَعرفُ كيف يَغْتذي من ثمار المبدعين على عهده، يَحجزُ لعَهده صفحةً في التاريخ لا تَطويها متتالياتٌ ولا تَؤُول بعدَه إِلى مطاوي النسيان.
النهار