في ذكرى رحيل سعد الله ونوس … الفيل يحتضر
[أنهى سعد الله ونوس مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” بالنبوءة التالية:
الجميع :هذه حكاية.
ممثل 5: ونحن ممثلون.
ممثل 3: مثلناها لكم لكي نتعلم معكم عبرتها.
ممثل 7: هل عرفتم الآن لماذا توجد الفيلة؟
ممثلة 3: هل عرفتم الآن لماذا تتكاثر الفيلة؟.
ممثل 5: لكن حياتنا ليست الا البداية.
ممثل 4: عندما تتكاثر الفيلة تبدأ حكاية أخرى.
الجميع: حكاية دموية عنيفة.
وفي سهرة أخرى سنمثل جميعا تلك الحكاية.
شاءت الأقدار أن تتصادف الذكرى الرابع عشرة لرحيل الكاتب والمسرحي السوري العربي الكبير مع بداية نهاية زمن الفيل في الوطن العربي. تحققت النبوءة وتكاثر الفيلة وبدأت الحكاية الدموية العنيفة لأن الفيل لم يعد يطاق. انتفض المحكوم عليهم بتقديس الفيل ضد الفيل وصاحب الفيل. رغم أن المسرحي الكبير اسلم الروح إلى بارئها، بعد صراع طويل وشجاع مع مرض السرطان الخبيث، ذات 15 من شهر آيار/مايو سنة 1997، فإن أعماله المسرحية ظلت مصدرا مهما لفهم العلاقة غير المتوازنة بين السلطة والشعب في البلاد العربية.
سعد الله ونوس ليس ككل المسرحيين ولا ككل المثقفين لأنه من الطينة “المحكوم عليها بالأمل”. من الطينة التي تحدت الصعاب ولم تترك الهزائم المتتالية تنال من عزيمتها. الراحل ابتدع أجمل ملجأ لكل من حاول التغيير وشعر بالانكسار، هذا الملجأ الفسيح الأرجاء، اللامحدود الأركان، هو الأمل. الأمل وحده هو الذي غذى رغبة سعد الله ونوس في الحياة وتحدي المرض، فكانت النتيجة حياة في حياة وإنتاجاً فكرياً غزيراً انتزعه الكاتب من مخالب الموت، وأبى إلا أن يتركه يحيا بعده، يستنير به من يحتاج إلى شعلة في ظلام النكسة والإنكسارات، بعد الهزائم المتلاحقة للعرب الرسميين. كأن سعد الله ونوس يقول للموت: يمكنك أن تأخذ الجسد، فهو ملك لك ولكن هيهات أن تأخذ الروح الثائرة التي تسكنني. الجسد قابل للتحلل على أي حال ولكن الروح الساكنة فيه تتحداك أيها الموت. حلت ذكرى رحيل هذا الهرم الشامخ وقد تحققت رؤياه في الحكم علينا بالأمل. هذا المقال رحلة قصيرة في حياة مبدع “الفيل يا ملك الزمان”.
ولد سعد الله ونوس في قرية حصن البحر سنة 1941 وتوفي عن عمر ست وخمسين سنة. حياة حافلة بالانجازات المسرحية وبالقلق الفكري الذي زلزل الكثير من المسلمات المسرحية التقليدية في العالم العربي. حصل على الإجازة في الصحافة من مصر سنة 1963، وسافر إلى فرنسا لدراسة المسرح سنة 1966 ثم عاد إلى بلده سورية وتقلد منصب مدير مسرح التجريبي بمسرح القباني.
أنتج سعد الله ونوس الكثير من الأعمال المسرحية بين سنة 1961 و1997، من أهمها: حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران (1967)، مغامرة رأس المملوك جابر (1970)، الملك هو الملك (1977)، الإغتصاب (1990). الملاحظ أن سعد الله دخل في مرحلة للتمعن والتأمل من نهاية السبعينيات وطيلة سنوات الثمانينيات ولم يكتب خلال هذه المرحلة أي عمل مسرحي. يقول عبد الرحمن منيف عن هذه المرحلة إنها “جديرة بالتمعن، لما تمثله من نزاهة فكرية، ومحاسبة للنفس قبل محاسبة الآخر، والتردد أو الخوف في مخاطبة الآخر قبل مخاطبة النفس” لأن الكاتب دخل فيها “رافضا الاعتماد على البراعة أو الرصيد” لتبرئة النفس. جاءت مرحلة المرض بعد مرحلة التأمل ومحاسبة الذات، حسب تعبير صديقه عبد الرحمن منيف، وأنتج فيها سعد الله ونوس ستة أعمال من أنضج ما تركه من أثر أدبي طيلة مدة اشتغاله بالكتابة المسرحية. ربما أدرك أن المرض عضال وأن الشفاء منه بعيد المنال، فقرر التفرغ للكتابة واستراق الوقت من زمن الموت. استطاع باستماتته أن يسرق الحلم من الموت، واختلس لحظات خلود من زمن غال من مرآب كبير اسمه مرض السرطان. بقوة عزيمة لم نر مثلها إلا عند إدوارد سعيد، الذي قاوم بدوره سرطان الدم لمدة طويلة، استطاع سعد الله أن يكتب منمنمات تاريخية (1994)، طقوس الإشارات والتحولات (1994)، أحلام شيقة (1995)، يوم من زماننا (1995)، ملحمة السراب (1996) ثم الأيام المخمورة (1997).
يقسم المتتبعون مسار سعد الله ونوس الإبداعي و المسرحي إلى ثلاث مراحل أساسية: مرحلة البدايات وكانت أغلب أعماله خلالها تتسم بالقصر وتغرق في الشعرية و الرمزية، كما أن آثاره خلال هذه الفترة يتلمس فيها تأثر كبير بالمسرح الوجودي والعبثي. المرحلة الثانية هي مرحلة الإلتزام والفعل المسرحي السياسي المباشر. تغذت هذه المرحلة من الإحساس بالهزيمة بعد حرب 1967 وامتداد القمع السياسي واستشراء التسلط في أمة يؤمن الكاتب بمقدراتها على الانعتاق والالتحاق بالأمم المتقدمة. وبما أن المسرح مظهر من مظاهر الحرية والديمقراطية فإن سعد الله ونوس لم يستسغ التراجعات الخطيرة التي حدثت في المناخ الديمقراطي العام في الوطن العربي وشكلت نكسة عميقة لأحلام جيل بأكمله مما ولد لديه الرغبة في تفكيك بنية السلطة من خلال المسرح باستحضار التاريخ كمدخل لمساءلة الواقع المرير واستفزاز الجمهور لطرح الأسئلة المغيبة عن سبب الهزيمة على كل المستويات. في حين أن المرحلة الثالثة من الحياة الفكرية لسعد الله ونوس هي مرحلة الإنغسال من الوهم—كما يصفها منيف— وصياغة سؤال المسرح من خلال الأنا. وصف منيف توظيف سعد الله ونوس لما نهله من التاريخ في هذه المرحلة المسرحية بالصدق والنزاهة، زاده في ذلك إيمانه الشخصي بأن “المسرح في الواقع أكثر من فن. إنه ظاهرة حضارية مركبة سيزداد العالم وحشة وقبحا لو أضاعها أو افتقر إليها”.
لايمكن فصل مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” عن السياق التاريخي الذي كتبت فيه باعتبارها تشكل تجسيدا إبداعيا لتغوّل السلطة المرموز إليها بالفيل. خلاصة القصة أن ملكا كان يحب فيلا فأطلق له العنان في المدينة. تغول الفيل، فأهلك الحرث والنسل، قطع أرزاق الناس، وحرم محمد الفهد من ابنه إذ داسه فصار “كتلة ممعوسة من اللحم والدم”. لم يعد الناس يستطيعون التحمل فأقنعهم زكرياء المتعلم المحرض بالذهاب إلى الملك للشكوى، فهذا حقهم كما يقول. ذهبوا على مضض إلى قصر الملك للشكوى فتعرضوا لكل أشكال الإهانة والازدراء من قبل الحراس، فالشعب في عرف أهل القصر وسخ وتسكن ثيابه البراغيث والقمل. الشعب ألف السكن في الزبالة فوجب تذكيره بأنه في قصر الملك. يتحول الحارس من فرد من أفراد الشعب إلى جزء من آلة جهنمية لإنتاج الإهانة لأن الاشتغال عند الملك يفترض طقوسا من الإهانة حتى لأقرب الناس.
قبل الذهاب إلى القصر اتفق زكرياء مع الناس/الشعب أن يبدأ هو الكلام عن الفيل ويقومون بإنهاء الشكوى أمام الملك بشكل موحد. لما وقفوا أمام الملك أفقدتهم الأبهة وطقوس السلطة القدرة على الكلام لدفع الظلم الذي لحق بهم من الفيل. اضطر زكرياء، بعد محاولات عبثية لتشجيعهم على الكلام، أن يطلب من الملك تزويج الفيل حتى لا يبقى وحيدا. تصرف زكرياء هذا يرمز إلى مأزق المثقف في المجتمعات التي استمرأت السكوت. تحول من محرض إلى انتهازي. تحول زكرياء من رمز يسعى لقيادة الشعب في مواجهة السلطة إلى خادم يرافق الفيل. فانتقل من خندق المدافع عن حقوق الشعب إلى الخندق المضاد رغم ما يستتبعه ذلك من نتائج وخيمة على التحول المنشود. العبرة المستخلصة من المسرحية، رغم بساطة أسلوبها، هي أن تغول السلطة على الشعوب لم يكن ليكون لولا صمتها. القراءة الفاحصة لحركات وأقوال الملك تبين مدى احتقاره لشعبه. الملك لا يعترف بكلام الشعب إلا إذا كان تعبيرا عن ولاء يبقي الشعب في مرتبة الرعية.
المسرحية انتهت برؤيا. رؤيا تنبئ بحياة أفضل للشعوب عندما تتكلم، عندما تتخلص من عبودية الصمت الذي فرضته على نفسها. فزكرياء حاول أن يوقظ القدرة على الكلام في هؤلاء القوم ولكن الخوف الذي يسكنهم أسقطهم عند أول اختبار. سقطوا في اختبار الدفاع عن أنفسهم بالكلام. لم يشأ سعد الله ونوس إنهاء المسرحية المسرحية عند هذا السقوط الشعبي في الاختبار الأول لأنه يبشرنا بأن تكاثر الفيلة بداية حكاية أخرى.”حكاية دموية عنيفة”. تكاثر الفيلة في حد ذاته يحمل في صلبه أسباب النهاية الحتمية لها: نهاية دموية ليس للفيل فقط بل لصاحب الفيل وعبدة الفيل أيضا.
لقد رأينا كيف سقط فيل تونس، وكيف تلاه الماموث المصري ذبيحا، ونحن مازلنا نشاهد كيف تجرح الفيلة يوما بعد يوم في أكثر من بلد وموقع في الوطن العربي. تتردد كلمات سعد الله ونوس في أسماعنا كما لو أنه قالها أمس. فهي احتفظت براهنتيها لأنها تختزل حكمة مثقف استشرافي جاء قبل الوقت ورحل قبل موعد الرحيل بسنين. رحم الله سعد الله ونوس، وأعان الشعوب العربية على إتمام إسقاط كل الفيلة.