في راهنية اليوتوبيا
محمد الحبيب طالب()
في البدء، لا بد من أن أهنئكم على اختياركم لموضوع “اليوتوبيا والتغيير الاجتماعي”. لقد أثار إعجابي هذا الاختيار؛ لأننا، في الحقيقة، سئمنا من الاجترار الجماعي لمصطلحات وضعية متشابهة، تمت عولمتها وبلغ تداولها حد التخمة. ومن دون أن يكون لها أي أفق إنساني جذري.
لكن، ما أن بدأت التفكير في موضوعنا هذا، حتى تبين لي بسرعة. أن موضوعنا من أشد الموضوعات النظرية تعقيداً، لالتباساته وتداخلاته مع موضوعات أخرى (كالايديولوجيا مثلاً) وفي شتى الميادين الإبداعية والفكرية والعلمية.. هذا عدا قلة الانتاج النظري فيه. وهنا، لا ينبغي أيضاً أن ننسى، وفي حدود ما أنا مهتم به، أن هناك يوتوبيات خالصة وأخرى مبطنة في ايديولوجيا حاملة لها. كما أن هناك يوتوبيات ذات منطلقات أيديولوجية رجعية أو محافظة، وهناك أخرى ذات منطلقات أيديولوجية مستنيرة ولكنها غير متلاحمة مع الواقع التاريخي. وهناك ثالثة تقدمية قريبة منه ودافعة له. فاليوتوبيا ليست دائماً قوة ثورية تقدمية. كل هذا يجعلني أقول، وبكل تواضع، إن ما سأقدمه ليس إلا انطباعات فكرية شخصية قد تكون مفيدة. وسأتجنب خلالها ما قد تستلزمه من تحليلات نظرية. مكتفياً بما أراه، وبما أستخلصه من معايشتي المباشرة. ولكم أنتم أن تحكموا لها أو ضدها.
إذا كانت “الثورة” هي التجسيد الأعلى للتغيير الاجتماعي، فإن أول مشهد يحيرني ويشد انتباهي ونحن نحيي ذكرى عزيزة علينا باستشهاد الرفيقة السعدية المنبهي شهداء الثورة أنفسهم، سواء في لحظتها الحاسمة وسواء في مخاضها التمهيدي. ما الذي يجعل مناضلاً ما يقدم حياته قرباناً لهذه الثورة؟! ما المقابل الذي يعادل التضحية بالوجود والحياة؟!.
لا أخفيكم أني لم أجد بعد ما يشفي غليلي، بل لم أجد بعد من تناول هذه الظاهرة المألوفة في كل الثورات بالتحليل المطلوب سواء كان الموضوع أيديولوجياً أو يتوبيا للتلازم.
قد تكون الشهادة خاتمة غير متوقعة، عارضة، لأي مناضل ثوري. لكن من المؤكد أن الذين اختاروا هذا الطريق، يكونون في الوضع النفسي والوجودي على استعداد لتقبل هذه الخاتمة، إن وقعت.
وفي هذا السياق، أذكر لكم الواقعة التالية، لما تحمله من دلالات عميقة في الموضوع الذي نتحدث فيه. وأظن ان أغلب المناضلين خبروها إما مع الأسرة أو مع المواطنين العاديين أو حتى في حوار مع أنفسهم وذواتهم.
كان أحد الرفاق يحدثني في “زمن الرصاص” عن حواراته المتكررة مع أبيه، وهو يحاول أن يثنيه عن انخراطه في العمل الثوري؛ وللعلم، فلقد كان والده رجلاً وطنياً معارضاً… كان هذا الرفيق يقول لي: إن السؤال الذي لم أكن أجد له جواباً في هذه الحوارات المتكررة، كان دائماً: ما هي مصلحتك، ماذا ستستفيد لو قدر الله ان أُعتقلت وعُذّبت، وضاعت حياتك بهذا الشكل أو ذاك (؟!).. ثم يستطرد محدثي: كنت أعرف أني لو أتيت في جوابي بكل الحجج العقلانية الطبقية والأخلاقية والإحصائية التي تفيد الثورة على الظلم والاستبداد، لما أقنعته بها، ولذلك كنت في الغالب، بعد مناوشات من هذا النوع، ألوذ الى الصمت.
وفي الحقيقة، كان صمتي نتيجة لشيء غامض يمور في نفسي، ولا أجد له تفسيراً.
أنا أيضاً لا أجد لهذا الظاهرة إلا جواباً واحداً. إنها حالة التماهي الكلي مع المثل المطلقة الكبرى. إنها القوة الخلاصية المبهمة التي تسكن البشر وتدفع به الى التقدم والتحرر نحو امتلاكه لإنسانيته الكاملة.
قد يكون الدافع الأيديولوجي دينياً أو دنيوياً، لكنه في كل الأحوال هو أيضاً دافع يوتوبي!.
الثورة كبنية اجتماعية
بعد هذا المشهد الأولي الذي قلما يتم الانتباه اليه في تحليلاتنا النظرية، أنتقل الى المشهد الثاني الجمعي، أي مشهد الثورة كبنية مجتمعية.
نعيش في زمننا هذا، ثورات شعبية في كل من تونس ومصر واليمن والبحرين. نعم، لقد أضفيت على الحراك الشعبي في هذه البلدان، خصوصاً، توصيف الثورة. وأنا لا أريد الدخول في نقاشات عقيمة، هل هي فعلاً ثورات أم هي مجرد انتفاضات أم هي شيء آخر من نوع أقل أو خصوصي(؟) لكني، وبالحدود النسبية للمفاهيم، أعتبرها ثورات شعبية حقيقية. أما هل ستكتمل، وهل سيتم لها النجاح أو أنها ستُجهض، فإنها أسئلة لما بعد، ولصيرورة الصراعات الاجتماعية الحية.
نحن نعلم، أن الثورة هي نتاج لتآكل شرعية النظام على المستويات الثلاثة:
– عجز القوى السائدة على الحكم بالأساليب القديمة نفسها، ويتجلى ذلك خصوصاً في تفشي تناقضاتها الداخلية.
تفسخ أيديولوجية “الرضى والتراضي” التي كانت تضمن القبول الطوعي “للطبقات” المحكومة.
– نمو الاستعداد الذاتي لدى “الطبقات” المحكومة، بما يجعلها قادرة على التعبير الجماعي عن رفضها لاستمرار الهيمنة القديمة نفسها، وقادرة على تحمل تكاليف الثورة وتبعاتها.
ما يهمني في هذه “الشيما” العامة، دور الأيديولوجيا واليوتوبيا لتلازمهما في هذا الوضع الثوري.
ربما من نافل القول، إن بعض الأبحاث النظرية في الأيديولوجيا واليوتوبيا، هي في الإجمال، بحوث سجالية مع المفهوم الماركسي للأيديولوجيا، لأن الماركسية قنطرة عبور لا بد منها لما كان لها من ثقل نظري وتاريخي. في خلاصاتها العامة، إن الأيديولوجيا في الصيغة الماركسية الأصلية، هي وعي مشوه ومغترب عن الواقع والممارسة الاجتماعية. ولذلك رأينا، كيف أن “أنجلز” وصف (في نقده للاشتراكيات الطوباوية، ولأول مرة) المذهب الذي يدعو اليه بمعية ماركس، بـ”الاشتراكية العلمية”. ونعلم، أن هذه الوصف، والذي شاع في النهاية، لم ينج هو الآخر من انتقادات متعارضة حتى من داخل الماركسيين أنفسهم.
أنا لست، كما قلت في بدء مداخلتي في وارد المشاركة في هذه المناقشة النظرية وتراكماتها المختلفة. لكن ما شد انتباهي من ضمنها، السؤال التالي: إذا كانت الأيديولوجيا وعياً مشوهاً ومغترباً عن واقع الممارسة الاجتماعية، ففي أي مستوى من هذه الممارسة يقع التشويه والاغتراب(؟) لأننا نلاحظ في مجمل التجربة الإنسانية التاريخية، أن ذلك الاغتراب لم يمنع البشرية من التقدم، وبخاصة في أنظمة الانتاج وما يلازمها بالتالي من تقدم علمي ومعرفي؟ كيف نفسر إذاً هذه المفارقة؟
وإذا كان الوعي الديني وعياً مغترباً (وهو الوعي الذي غطى قسماً كبيراً من تاريخ البشرية)، فكيف يتحول في ظروف معينة الى وعي احتجاجي والى طاقة ثورية للتقدم؟.
هذه الأسئلة لا بد أن نستحضرها في موضوعنا وواقعنا الحاليين. وثمة بالتأكيد اجتهادات تنظيرية متنوعة وحتى متعارضة في الإجابة عليها. وعلينا نحن أن نفكر سوياً في ما يمكن أن نستخلصه منها.
وأعود الى مشاهد الثورات في البلدان العربية لنتأمل قليلاً في دلالات حشودها في الميادين أيام الثورة.
تلك الحشود العارمة التي كانت تصدح بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بلا تفكير في تفاصيلها العملية، ولا في مستلزماتها، وإنما بما هي مثل عليا في ذاتها. تلك الحشود التي كان الله حاضراً بينها بقوة، لكنه حضور بغير المعتاد إن صح التعبير. إنه حضور المحرض على الحرية والكرامة الإنسانية والمساواة المطلقة. إنه المتعالي الذي هو للجميع وفوق الجميع بلا تمييز ديني أو مذهبي وبلا تمييز بين المرأة والرجل.
أليس هذا المشهد الجمعي تجلياً تاماً للجانب اليوتوبي الذي يسكننا، ولذلك النفس الخلاصي الذي تحتويه كل الثورات التي عمرت التاريخ البشري. أبداً، لن يغير من هذه الحقيقة الإنسانية الخالدة خلود الإنسان نفسه، هبوط الثورة في كل مكان من قمتها اليوتوبية لتنساب في مساراتها التاريخية الطبيعية في صراع المصالح والأيديولوجيات المختلفة على قدر ما تؤهلها قواها المنتجة. فتلك سنة من سنن كل الثورات. إلا أن معاودة الصعود الى القمة يبقى دائماً حاضراً ومحركاً جاذباً.
حركات احتجاجية
أما في المشهد الثالث والأخير: فكما نعيش ثورات عربية، نعيش في الآن نفسه حركات احتجاجية عارمة في البلدان الرأسمالية المتقدمة طالت مركزها الأقوى، الولايات المتحدة. لكن الظاهر في هذه الحركات أنها لا تحمل مطالب يوتوبية تطعن جذرياً في النظام الرأسمالي القائم، وتقدم ولو صورة أولية بديلة عنه.
إنها حركات احتجاجية دفاعية ليست في مستوى أحلام ثورة 1968، التي رفعت مثلاً جذرية ضد كل البنيان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للنظام الرأسمالي.
وكانت كما نعلم آخر الثورات ذات النفس اليوتوبي في العالم الرأسمالي المتقدم.
والسؤال، هل التطورات التي شهدها العالم في البلدان المتقدمة على المستوى التكنولوجي والاقتصادي والثقافي تضعنا أمام الشوط الأخير المقفل لـ”الإنسان ذي البعد الواحد” بحيث لا ممكنات أخرى أمامه، ولا خيارات لديه سوى الخضوع لاغترابه في عالم اليوم؟ أو كما يُقال: هل نحن أمام “نهاية التاريخ”؟ وهل مع التقدم الهائل والمتسارع تقل وتموت اليوتوبيا؟.
ثمة قولة لألتوسير، وهو أشد المفكرين الماركسيين عبادة للعلم في مقابل الأيديولوجيا وتوأمها اليوتوبيا، مفادها، مهما حصل من تطور في التحكم العلمي للبشرية في مصائرها، فثمة مساحة واسعة ودائمة للأيديولوجيا واليوتوبيا” و”لبول ريكور”: “ليس بوسعنا الخروج من دائرة الأيديولوجيا واليوتوبيا. لكن حكم الملاءمة قادر على مساعدتنا في فهم الكيفية التي يمكن أن تصبح بها الدائرة لولبية”. أي قوة تصاعدية الى الأمام.
[ عن مجلة “النهضة، المغربية في عدد المزدوج الأخير الثالث والرابع
() كاتب ومحلل سياسي مغربي