في رثاء الثورة السورية…/ عصام الخفاجي
قبل أيام قال روبرت فورد، آخر سفير للولايات المتحدة إلى سورية وممثلها لدى المعارضة حتى تقاعده أخيراً، كلاماً كان سيصدم كثيرين، لا سيما في أوساط من وقفوا إلى جانب الثورة لو قيل قبل بضعة أشهر. لم يصدمنا إعلان مسؤول أميركي تحرر من التزاماته الديبلوماسية وصار في وسعه إبداء رأي لا بد من أن إدارته تشاركه فيه بأنه لا يرى أفقاً لإزاحة الأسد من السلطة، لا في المدى القريب ولا المتوسط. محزن أن تكون ردود الفعل الضمنية على تصريحاته: «أعرف ذلك». محزن ألا يتحوّل رأيه إلى مانشيت صفحة أولى لأن المحررين يعرفون أن لا جديد ينقلونه الى قرّائهم.
أكاد أجزم بأن غالبية قد تكون ساحقة من مؤيدي الثورة ومن السوريين الصامتين أو الحائرين ومن الحكومات، وبالطبع، من أنصار الأسد، تدرك أن الثورة تحتضر. بل أغامر بتعميم هذا الحكم ليشمل فصائل المعارضة مستثنياً من لم يروا فيها منذ البدء ثورة ضد نظام وحشي وإنما حرباً أو جهاداً لإقامة دولة الإسلام أو الخلافة.
أدرك أن إطلاق هذا الحكم موجع لكنه ضروري. فالوقائع التي يسكت الناس عنها تصير سموماً، وفق نيتشه.
تجاوز الوقت الحديث عن تسليح نوعي للمعارضة «المعتدلة» يقلب موازين القوى. هو مطلوب، ومطلوب بشدّة لتعديل تلك الموازين بما قد يساعد على انتزاع تنازلات من نظام الأسد، وأشدد هنا على كلمة «قد». فما كان كفيلاً بتحقيق ذلك الانقلاب وإلحاق الهزيمة به في العامين الأولين لم يعد اليوم غير أمل أخير بتفادي هزيمة كاملة تحيل الثورة إلى هامش في كتب التاريخ، كما الحرب الأهلية الإسبانية بين نظام الديكتاتور فرانكو وأنصاره وبين الجمهوريين. ولن يغيّر موازين القوى تلوين صياغات النشرات الإخبارية: «يقول النظام السوري إنه سيطر على يبرود»: زعم لا غير. ولكن «سيطرت قوات المعارضة على حاجز…»: خبر قاطع الصحة.
تأخر الوقت على إسقاط الأسد، لأن أطناناً من الأسلحة يمكن أن تمكّن المقاتلين من الدفاع عمّا تبقّى من المناطق المحررة وتضعف قدرة الطيران على إلحاق الدمار، لكنها لن تكون كافية لتحويل الجيش الحر إلى ندّ لجبهة النصرة. فعديد الأول وفقاً لتقديرات استخبارية غربية 11 ألف مقاتل يقابله 30 ألفاً لجبهة النصرة فضلاً عن آلاف «داعش» التي يصعب تقديرها لكنها تزيد عن خمسة آلاف بالتأكيد.
تأخر الوقت لأن الثورة انهزمت سياسياً. للضعف العسكري والمادي علاقة وثيقة بلا شك بالهزيمة السياسية، لكنه ليس سببها الأساس.
المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري على تبنّيها خطاباً ساذجاً وتجهيلياً لا يختلف كثيراً عن خطاب النظام في تعبيره عن احتقاره.
المعارضة مدينة بالاعتذار عن خطاب قادتها المنتشي بانتصارات السنة الأولى. خطاب أثار الشك في كونهم رجال دولة يعرفون ما يتحدثون عنه ويحسنون تقدير الأمور. كان مفهوماً الحديث عن أن الأسد لن يبقى على رأس الحكم. ما كان مثيراً للسخرية أن يعلن رئيس المجلس الوطني السوري، الجسم القيادي للثورة قبل تشكيل الائتلاف، أن الأسد سيسقط قبل نهاية 2011. ومتى قال ذلك؟ قبل انتهاء السنة بأسبوعين!
المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري، لأنها تخيّلت أن الإقرار بوجود قطاعات شعبية واسعة تؤيد النظام عن قناعة يضعف الصورة الشعبية للثورة. ظل حديثها، وأراهن بأنها لم تكن مقتنعة به، يمارس أبوية الإعلام الأسدي مقلوبة: ثمة خائفون نشفق عليهم، ومضَلّلون سيكتشفون الحقيقة التي تجلّت لنا ومرتزقة نعاديهم. مثل هذا الإنكار الذي لازم تقاليد السياسة العربية هازم للذات، إذ هو يعفي المعارضة من السعي الى إيجاد قاسم مشترك بين برنامجها السياسي ورؤيتها المستقبلية من جهة، وبين رؤى قطاعات قد تكره الديكتاتورية لكنها تخشى من ديموقراطية تهمّشها باسم حكم الغالبية، كعراق اليوم ومصر الإخوان المسلمين، قد تعارض الأسد واحتكار عائلته للسلطة ولا تعارض الفكر البعثي.
الثورة على النظم العقائدية، كما كتبت في «الحياة» في فترة مبكّرة من عمر الثورة، عملية تاريخية تختلف نوعياً عن الثورات ضد ديكتاتوريات لا تتقنّع أيديولوجياً مثل نظامي مبارك وبن علي، لأن النظم الأولى تعيد هندَسة مجتمعاتها وتفقر ثقافتها السياسية إلى حد يقارب العدم.
المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري، لأنها إذ اضطرت إلى اللجوء الى المقاومة العسكرية عسكَرَت سعيها لكسب الشعب. أنقل عن خبراء عسكريين غربيين ذهولهم من إصرار المعارضة على تحرير مدن تعرف أنها لن تستطيع حمايتها من بطش النظام ولا إعاشة سكّانها، وأنقل تفسيرهم لعدم اللجوء إلى خوض حرب عصابات يرونها الوسيلة الفعّالة لمجابهة نظام كهذا بأنه عائد إلى أن الجسم الأساس للجيش الحر مكون من قوات نظامية منشقّة لا تعرف غير الحروب التقليدية. ويشيرون تأكيداً إلى أن الاعتماد على «حزب الله» والحرس الثوري والميليشيات العراقية لم يأت بالأساس سدّاً لنقص في المقاتلين مقدار ما كان توجيهاً إيرانياً بارعاً باعتماد أساليب حرب عصابات يجهلها الجيش السوري كما مقاتلو الجيش الحر. أنقل هذا لا لأنني آخر من يحق له الحديث عن الحروب فقط، بل للتذكير بأن خوض حرب العصابات يتطلّب تكويناً عسكرياً مختلفاً بالتأكيد.
التاريخ المعاصر (ولا أستند هنا أيضاً إلى «خبرتي» في حروب العصابات) يقول إن ما من حرب عصابات انتصرت أو انهزمت لأسباب عسكرية. فمقاتلو حروب العصابات لا يمتلكون قوات قادرة على قهر سكان المدن المحررة. هم ينتصرون سياسياً حين يمهّدون لمعاركهم بتعبئة السكان المحليين ضد نظام الحكم وينجحون في إقناعهم بأنهم يقدّمون بديلاً سياسياً أكثر تجاوباً مع ما يحلمون به ويطمحون إليه.
المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأن أي متابع كان بوسعه معرفة أن من حرر حلب هم أبناء أريافها لا أبناء المدينة نفسها، ولأن أبناء حلب وأدلب والرقّة، حتى وإن كانوا كارهين للأسد ونظامه، لم يروا أنفسهم مديرين لشؤونهم بعد إزاحة الخصم، بل كانوا شهوداً سلبيين على تغيير في طاقم الحكم رافقته تغييرات في نظم تقرر ما يجب أو ما لا يجب قوله، ما يخضع للعقاب وما لا يخضع. نظم تقرر قوانين العقاب وأشكاله وتحدد للناس أصدقاءهم وأعداءهم. نظم لم يختاروا سابقها ولا اختاروا لاحقها.
المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأنها رفضت ولا تزال ترفض إطلاق تسمية الحرب الأهلية على الثورة. الاعتذار مطلوب هنا لا لتصحيح خطأ أكاديمي، بل لأن إدارة الصراع في حرب أهلية تختلف نوعياً عن عملية قيادة انتفاضة جماهيرية على عظم الأخيرة. رفضت المعارضة التسمية إذ أرادت الإيحاء بأن غالبية الشعب تقف معها في المعركة ضد نظام استبدادي وحشي في ما يحيل مفهوم الحرب الأهلية إلى انقسام شعبي في الرؤى السياسية وربما القيمية. ورفضه النظام إذ يريد تصوير وحشيّته ضد الثورة والشعب حرباً ضد إرهابيين متطرّفين. ولكن ما من ثورة كبرى في التاريخ لم تكن حرباً أهلية في جوهرها. والثورات ضد النظم العقائدية، أياً كان حجم البلد الذي تندلع فيه، هي ثورات كبرى في رأيي. بل إن الانقسامات المجتمعية التي حوّلت الثورات الكبرى إلى حروب أهلية كانت، كما هو حال سورية، انقسامات مناطقية لا مجرّد انقسامات بين أغنياء وفقراء أو بين حكام ومحكومين.
المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأنها، كما النظام الشمولي الحاكم ذو خطاب الانسجام الاجتماعي الذي لا يخرقه غير خائن، لم تناقش جدّياً ولم تنظّم (وأتمنى بكل صدق أن أكون مخطئاً) مؤتمراً أو ندوة أو ورشة عمل عن أسباب استعصاء السويداء الدرزية عن الثورة على رغم أن أبناءها لم يظهروا حماسة لدعم الأسد، أو عن كيفية جعل الجسم الكردي جزءاً من الثورة السورية، أو عن كيفية تمكين تيار صلاح جديد من علويي القرداحة المعادين للأسد وضمان دوره في احتلال دور قيادي يستحقه في سورية المستقبل. بعض معارضي اليوم مطالب بالاعتذار للشعب السوري ولحركات سياسية ومبدعين سبقوه بسنين، وربما بعقود، في الوقوف بوجه نظام الأسد فيما كانوا صامتين أو مصفقين له منطلقين من المنطق ذاته الذي يستخدمه مناصرو بشار اليوم: الدفاع عن جبهة الصمود والتصدّي (الإسم التجاري السابق لقوى الممانعة). مطالبون بالاعتذار للإخوان المسلمين، لتيار صلاح جديد، لرابطة العمل الشيوعي، لتيار رياض الترك، لسعد الله ونّوس ومئات آخرين.
المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأن إجابتها عن تلك الأسئلة الحارقة، حتى وإن انطلقت من أكثر النيات إخلاصاً، حملت نذر الخطر. طوال السنوات الثلاث الفائتة، كان مثال المعارضة العراقية لصدّام حسين دائم الحضور في ذهني وهو ما دفعني إلى كتابة مقال آخر في «الحياة» يقارن بين المعارضتين السورية والعراقية. حيثما سمعت مصرياً يقول «لا فرق بيننا وبين إخواننا الأقباط»، وحيثما سمعت شيعياً عراقياً يقول «لا فرق بيننا وبين إخواننا السنّة»، وحيثما سمعت سنّياً سورياً يقول «لا فرق بيننا وبين إخواننا العلويين أو المسيحيين» عليك أن تستشعر الخطر. «إخواننا» هي كلمة السر. كلمة السر هذه ظلّت جزءاً من الإكسير الذي تعد به المعارضة الشعب السوري بمستقبله الديموقراطي. ديموقراطية تعني حكم الغالبية: غالبية شيعية في العراق وغالبية مسلمة في مصر وغالبية سنّية في سورية. وحكم الغالبية ديموقراطياً هنا هو حكم قيمها الدينية.
المعارضة مدينة بالاعتذار للشعب السوري لأنها على حق في أن ما تشهده سورية اليوم ليس حرباً أهلية. انتهت الحرب الأهلية إذ لم يعد ثمة طرفان يمتلكان قاعدة جماهيرية تتكافأ بهذا المقدار أو ذاك يتصارعان على كسب الغالبية لتأييد مشروعهما السياسي. ثمة عصابات تتصارع على نهب دولة منخورة: سلطة داعرة وجنين سلطة «داعشة» و «نصرة». المعارضة تقول إن العدو يضخّم دور الإرهابيين. والأرقام تقول إن أعداد القتلى في المعارك بين «النصرة» و «داعش» بلغ 4500 خلال ثلاثة أشهر.
بحسبة بسيطة: المتوسط الشهري لضحايا النظام منذ اندلاع الثورة 2500 ومتوسط ضحايا قتال العصابات 1500 شهرياً.
وكلّنا مدينون بالاعتذار للشعب الذي أطلق الثورة ولمقاتلين اندفعوا لمواجهة آلة وحشية بدوافع نبيلة. لا نمتلك إلا أن ننحني لهم إجلالاً. كان بوسعنا أن نفعل المزيد.
على المعارضة أن تعتذر.
الحياة
تعليق واحد