راتب شعبوصفحات سورية

في سوريا.. عسكر على المدنيين/ راتب شعبو

 

 

نامت اللاذقية ليل 10/11 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي مكلومة، كما تنام دوما وداريا وتيرمعلة وغيرها عقب كل قصف يطال المدنيين على الأفران وفي الأسواق. ترى هل يُقتل المدنيون هنا وهناك نتيجة أخطاء في التصويب أو تخلف في الأسلحة وضعف في دقة الإصابة؟ أم يُقتلون عمداً نتيجة تخلف في السياسة وضعف في النفوس وفي الأخلاق؟

الواضح أن استهداف المدنيين عمل مقصود، فالأسلحة الحديثة الروسية لم تختلف كثيراً في قتل المدنيين السوريين عن البراميل الأسدية السيئة الذكر. وأصحاب الصواريخ من الإسلاميين تمكنوا، حين أرادوا، أن يستهدفوا بدقة المركز الثقافي الروسي في دمشق، وحتى اللحظة لم تسقط صواريخ الإسلاميين هؤلاء على مقرات حساسة للنظام السوري. وفي حالة موازية (امريكية هذه المرة وفي العراق) قصف الطيران الأمريكي ملجأ العامرية في شباط 1991، وقتل أكثر من 400 مدني عراقي معظمهم من النساء والأطفال. وفي حالة جديدة (أمريكية أيضاً وفي أفغانستان منذ أسابيع قليلة) استهدف الطيران الأمريكي عمداً وبكل ذكائه ودقته مشفى تابعاً لمنظمة أطباء بلا حدود في قندوز شمال أفغانستان، وذلك باعتراف البنتاغون. الملاجئ والمشافي وسيارات الإسعاف والأفران والأسواق الشعبية ومواقف الباصات في ساعة الذروة بجانب مبنى جامعي .. كلها أهداف “مشروعة” لأعداء البشرية. القصف المتعمد للمدنيين ومحاولة إيقاع أكبر عدد من القتلى في صفوفهم، سياسة راسخة لدى أعداء البشرية، لم تبدأ مع هيروشيما ولن تنتهي في دوما أو اللاذقية. وحالما انجر طرف ما إلى اتباع هذه السياسة ينبغي أن يدرك أنه بات من المعسكر نفسه، وفي مستنقع الجريمة عينها.

قصف المدن وقتل المدنيين عشوائياً وحصار المدن وتجويع المدنيين، إنما هي سياسة من لا سياسة له. إنها سياسة من لا يمتلك في جعبته سوى القتل، ولسان حاله يقول: اقبلوني كما أنا أو أقتلكم. وربما يقول ما هو أشد: أريد قتلكم لأتخلص من الجزء الذي لا يروق لي من السكان.

اللاذقية المكلومة اليوم ليست لاذقية الأسد، إلا بقدر ما يمكن القول إن دوما المكلومة هي دوما علوش أو الرقة المكلومة هي رقة داعش. ولا نبتعد عن المنطق والحق إذا قلنا إن الأسد وأعوانه وعلوش وأضرابه سعداء بجرائم بعضهم البعض، بقدر ما تؤدي هذه الجرائم إلى تعزيز مكانة كل منهم (كحامي) مع تكريس كراهية الطرف الآخر ورفضه (كمجرم يستهدف جمهور خصومه)، وكل ذلك على حساب الأهالي السوريين في حياتهم وأكلهم وإيوائهم وفي كل تفاصيل حياتهم.

الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، لم يجد ما يدفعه حتى لذكر خبر قصف اللاذقية على صفحته الرسمية. يكتفي في التاريخ نفسه (10/11) بذكر خبر ضحايا تكثيف القصف على دوما وعلى أحد مخيمات اللاجئين.

ترى لماذا تصمت عن هذا الخبر الجهة التي تعتبر نفسها الممثل الشرعي للشعب السوري؟ ألا ينتمي الطلاب الذين قتلوا على باب جامعتهم إلى الشعب الذي تعنى به “قوى الثورة والمعارضة”؟ إذا كان يعتبر “الإئتلاف” أن النظام هو من نفذ هذا القصف، ألا يكون هؤلاء الضحايا ضحاياه؟ ألا ينبغي أن يذكر خبر مقتلهم كجزء من الشعب السوري على الأقل، كأي صحيفة تنقل أخبار عن سورية؟ ألا ينبغي أن يدين قصف النظام لهم كما يدين قصف النظام على دوما وعلى مخيم أوبين مثلاً؟ أم أن “الإئتلاف” معني فقط بنقل خبر “سورية المفيدة” الخاصة به، على غرار النظام؟ هل هكذا يبني له حضوراً أخلاقياً وسياسياً في سوريا كبديل له مكانته؟ ولكن للحق، فإن صمته عن مجرزة اللاذقية هذه (كائناً من يكون الفاعل، وكائنة ما تكون التحليلات) أفضل من تغطيته لخبر مجزرة ريف اللاذقية الشمالي قبل أكثر من عامين بقليل، حين اعتبر قتل المدنيين (وغالبيتهم من الأطفال والعجائز) والتمثيل بجثثهم وخطفهم، بطولة وانتصار “لأسود الجيش الحر”.

من أسوأ جوانب مأساة السوريين اليوم، هي أن للجرائم الحربية تعبير سياسي يواكبها ويغلفها بمشروعية ما وأحياناً “بقداسة” ما، وهذا لا اسم آخر له سوى الفاشية. لا يفيدنا اليوم البحث في الأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه (وهو بحث مهم وينبغي العمل فيه)، ما يفيدنا هو كيف نفكك ما نحن فيه من تحول فاشي يمس طرفي الصراع ويلتهم حاضر سوريا ومستقبلها.

حين يطالب مخرج سينمائي مثل نجدت أنزور بأكثر من البراميل، على الملأ وفي فيلم صحافي، نكون أمام معضلة مخيفة. وكذلك حين يصمت الائتلاف عن جريمة اللاذقية وحين يهلل لها بعض ناشطي الفيسبوك. إن تقارب طبيعة جهتي الصراع في سوريا هو ما يجعل من هذا الصراع مدمراً ولانهائياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى