في سورية: الخوف من الفتنة الطائفية؟
سلامة كيلة
يسكن بعض النخب خوف عميق من “فتنة طائفية” تغذّ الخطى سورية نحوها. ولهذا تميل إلى التخويف، وتعمل على “لملمة” الصراع. ولا شك أنّ صورة سنة 1980/ 1982 لازالت متّقدة لديهم، وبالتالي لازالوا يرون في المجتمع ما كان عليه آنئذ. وربّما يعتقد البعض بأنّ الأمور هي أسوأ الآن.
أظنّ أنّ هذه النخب لم تلتقط اللحظة الراهنة. وبالتالي لا تعرف ما يجري في الواقع (في الواقع وليس في الإعلام). لم تعتقد بأن هؤلاء المفقرين الشباب يمكن أن يكونوا بهذه القوّة، وأن يتَحََدوا ما أخاف كثير من هذه النخب طيلة العقود الماضية، إلى حدّ الشعور بالعقم. وهو الوضع الذي أوجد الأوهام بأنْ لا حلّ إلا بتدخّل خارجيّ، فالشعب خانع ومستكين، والسلطة قوية، قوية إلى أبعد حدّ. وفي الواقع سيظهر بأنّ العقم هو الذي أوجد هذه الصورة. كما سيظهر بأنّ العجز هو الذي يولّد الأوهام حول الصراع الطائفيّ.
هل في سورية طائفية؟ ما حاولته حركة الإخوان المسلمين سنة 1980 هو شكل من أشكال الصراع الطائفيّ، لكنّ ردّ السلطة كان طائفياً أيضاً. ولا شكّ في أنّ دموية الصراع حينها قد أوجدت احتقانات طائفية، لكنّ ما بقي هو تشقّقات حمّلتها بعض النخب أكثر ممّا تحتمل. وجاء الهجوم الإمبريالي الأميركي بعد سنة 1990 لكي يؤسّس لصراعات طائفية من خلال الدفع نحو تقسيم البلدان العربية، وهو ما ظهر في العراق بعد احتلاله. وكان يبدو أنّ وضع سورية يحمل ميلاً لتمزّق طائفيّ بعد أن توسّعت موجة الأصولية الإسلامية. وكان يظهر أواسط العقد الماضي وكأنّ الدفع الإمبريالي هو نحو ذلك.
لكن هل نستطيع قول كلّ ذلك الآن؟ ليس بعد الثورات في عدد من البلدان العربية بل بعد الثورة في سورية ذاتها؟. فقد أشير في أكثر من بلد عربي بأن ما كان يبدو كصراع طائفي تلاشى، وظهر أنّ الذي خلفه هي النظم ذاتها، التي تريد تفكيك المجتمع لكي تستطيع الحكم.
ما ظهر إلى الآن يفرض علينا أن نعيد النظر في رؤيتنا لما كان يجري “تحت”، أي ليس على السطح بل في العمق. لقد كانت الملاحظة العامة هي ميل الشباب إمّا نحو التأسلم أو نحو العبثية. وعملت جهات إعلامية عديدة على تكريس هذا الانقسام المتناقض من منظور أنه يبعد الشباب عن السياسة والصراع انطلاقاً من الظروف الصعبة التي يعيشها. وكانت هذه الصورة تجعل النخب (بدل أن تحلل الظاهرة) تصدر الأحكام الفظة ضد هؤلاء الشباب. وانطلاقاً من ذلك يتأسّس الخوف من الصراع الطائفي، حيث هناك تعصب وأصولية من جهة، وهناك شباب عبثي هو غير معنيّ بما يجري من جهة أخرى.
لكن حين نتلمس الوضع الآن، والشباب هو الذي يلعب هذا الدور البطولي، لا بدّ لنا من أن نحلل الحالة سوسيولوجياً. إنّ الأساس هنا هو أن هذا الشباب بات يعيش أفقاً مسدوداً، سواء نتيجة العجز عن دخول الجامعة بسبب التشديد في القبول، أو نتيجة العجز عن إيجاد فرص عمل سواء بعد التخرج أو الذين ظلوا دون تعليم. وهو المأزق الذي كان يوجد أعباء عائلية تزيد من إرهاق الأهل، وتشكيل حالة من الحرج العميق. لقد تصاعدت البطالة، وتوسع الفقر، بحيث أصبحت إمكانية العيش مرهقة. في هذا الوضع، وأمام سلطة استبدادية لا تسمح بأيّ تعبير، ولدى شباب لا يعرف السياسة ولا يريدها أصلاً (نتيجة ثقافة البيئة)، لا يكون من حلّ سوى مقاومة العجز بما هو روحيّ، لهذا بدت العودة إلى التدين ضرورية وشملت فئات واسعة. فالدين يقدّم عزاءً روحياً يهدئ من عمق الأزمة، ويسمح بالتكيف مع الوضع القائم. طبعاً في المقابل تكون العبثية حالة هروب من الأزمة ذاتها، من خلال عدم التفكير في الأزمة ذاتها والتعلق بكل ما يُخرج من الواقع (الأغاني الهابطة والمقاهي والرياضة، وجاء النت ليفتح أفقاً لذلك). وكان كل ذلك يرتبط بانهيار الأحزاب السياسية عموماً، وبـانهيار الأيديولوجية كذلك.
في هذا الوضع كان يمكن اللعب بالمسألة الطائفية بالتأكيد، حيث يمكن جرّ فئات إلى صراعات على أساس تعصّبيّ. لكنّ ما لاحظناه هو تحوّل هؤلاء إلى مقاتلين من أجل التغيير. فجأة، وفي لحظة، أصبح هؤلاء قوّة تغيير هائلة، ربما صدمت النخب ذاتها، كما أرعبت النظم. إن فهم العمق الذي جعل هؤلاء يتخذون هذه السياقات يمكن أن يفسّر لنا التحوّل الممكن الآن. فعزاء الروح لم ينقذ من الموت جوعاً بعد تفاقم الأزمات الاقتصادية مع تصاعد الأسعار دون زيادة في الأجور، ومع توسع البطالة، وانسداد أفق الهجرة بعد الأزمة المالية الإمبريالية. والعبثية باتت عبئاً ثقيلاً في وضع تراجيدي. لهذا كان لا بدّ من الإقدام من أجل فتح الأفق بكسر ما يمنع ذلك، ألا وهو السلطة. هنا تحوّل الصراع إلى صراع سياسي بامتياز، لأنه يهدف إلى هدم السلطة التي تشكّل سداً أمام المقدرة على العيش بعد أن أصبحت الحماية لفئات نهبت إلى حدّ التخمة، وراكمت الأموال، وسيطرت على الاقتصاد، وحرفت الاقتصاد من تكوينه “التقليدي” (الزراعي والصناعي) إلى تكوين ريعيّ يستطيع توظيف نسبة محدودة من السكان (ربما أقل من 20%)، ومن نمط محدَّد لا يستوعب الكتل التي باتت خارج كل العملية الاقتصادية أو تهمشت فيها.
وإذا لم يكن هؤلاء الشباب يمتلك ثقافة سياسية، فقد فهم بالممارسة أن أزمته تتلخص في السلطة، وأيضاً بات رده واضحاً. لم يعد يلتفت إلى التمايزات التي توجدها “الأيديولوجية” الإسلامية، ولا أصبح يبحث عن اللون الطائفي للسلطة، فكل ذلك ليس هو الأساس، ولا يعني شيئاً، لأن المسألة لا تبدو هنا بل في تمركز الثروة لدى فئة ضئيلة، وإفقار الآخرين. وفي استخدام السلطة لضمان هذا التقسيم الطبقي. وبهذا سيكون كل “التشوش الثقافوي” بلا معنى، وكل الحاجة إلى ما يسكّن دون حاجة. وتصبح المسألة هي مسألة شعب ضد سلطة.
هذا ما يبدو مترسخاً لدى الشباب الذي تقدّم من أجل التغيير. فهو يريد العمل والأجور الأفضل، لكنه يصطدم بجدار السلطة فيطالب بالحرية. ويصبح كل ما هو ماضويّ خارج السياق، ولا حاجة له، لأنّ الأمر يقتضي البحث في الأفق المستقبلي الذي يحتاج إلى وعي سياسي بالتحديد. لهذا لم تفلح كل محاولات الزجّ الطائفي، أو التحريض للأقليات الدينية والطائفية، وتخويفها من بعبع السلفية والإخوان المسلمين. فقد ردّ الشباب بشعار واضح: لا سلفية ولا إخوان. وإذا كانت بعض الأقليات متخوّفة فلسوف توضّح في سياق الصراع الممتدّ بأن المسألة تتعلّق بخوف داخلي من التقدّم لكسر حاجز الخوف رغم الظروف الاقتصادية غاية الصعوبة التي تعيشها، وستكتشف بأنها تتشابه مع كل هؤلاء الذين تقدّموا لخوض الصراع الطبقي.
إن الشعور بأن الحياة تساوي الموت فرضت أن تصبح المسألة هي مسألة قلب الواقع القائم وتأسيس واقع جديد يفتح الأفق على الحياة الحقيقية. هنا يتراجع الماضي حتى والثقافة التي تجري الممارسة انطلاقاً منها هي ثقافة ماضوية، ويصبح البحث عن ثقافة جديدة هو ما يحكم هؤلاء. وهنا تبرز أهمية الدولة المدنية الحديثة والمواطنة، وكل ما يؤسس لحداثة حقيقية. إن ما يتأسس لدى هؤلاء هو خلاصة الصراع الذي حكم العقود الماضية، سواء من أجل وضع اقتصادي أفضل أو من أجل الدمقرطة أو كذلك في مواجهة السيطرة الإمبريالية والصهيونية. وهذه مسألة تبدو واضحة لأن هؤلاء المفقرون يعرفون بحدسهم الترابط بين النهب الداخلي والعلاقة مع الإمبريالية، ويتحسسون الخطر الذي تشكله هذه.
وهذا ما يجعل الأفق القادم مفتوحاً على تغيير عميق في طبيعة الصراع، والفهم، والدور. إنّ تجاوز الفقر والتخلف والتهميش هو مرتبط حتماً بصراع كبير. وهو الأمر الذي يفرض فهم أننا تجاوزنا الماضي الذي كان يخيف من زاوية مقدرة الإمبريالية على فرض منطقها، بما فيه الصراع الطائفي، وأن المسألة تتعلق بصياغة أفق المستقبل. ولا شك في أن هذه النقلة في الوعي لدى الشباب هي أرضية بناء دولة مدنية حديثة، وفي صالح الطبقات الشعبية.
موقع الآوان